قطعت العلاقات المغربية- الفرنسية، خلال سنة واكثر، أشواطا متقدمة من سوء الفهم. بماذا يمكن توصيف طبيعة العلاقة الراهنة بين الدولتين؟ هل هي مجرد سوء فهم، نتيجة لاختلاف المواقف في مقاربة بعض “القضايا التقنية”، من قبيل استعادة المهاجرين غير الشرعيين، وان طال امد ذلك أكثر من اللازم؟ هل هي جفاء، بسبب تغير /انقلاب ما في وجهة النظر الجيوبوليتيكية، من أحد الشركاء الى الاخر؟ هل هي توتر ناشىء عن ضياع مصالح احد الطرفين لصالح الطرف الثاني؟
قد لا يمانع البعض في توصيف العلاقة الحالية، بين المغرب وفرنسا، بكل ما سبق عرضه من توصيفات، بالنظر إلى طبيعة العلاقة المستجدة من جهة، وامتدادها الزمني، دون حلحلة، من جهة ثانية. غير ان ذلك لم يبلغ، في الان ذاته، مستوى الصراع، الذي لا يمكن تسويته الا بانتصار مصالح أحد الطرفين على حساب مصالح الطرف الاخر، او بالأحرى اعادتها الى مربعها الأول، حيث كانت قبل حدوث سوء الفهم (او التضارب، باستخدام مصطلح، اكثر قوة، هذه المرة).
في سياق العلاقة الحالية بين الدولتين، يمكن الاكتفاء بالحديث عن نوع من البرود، الملحوظ على مستوى غياب التواصل الرسمي، العالي والوثيق، في ما بين السلطات الحكومية هنا وهناك. البرود، هو سيد الموقف، اليوم، بانتظار ان تتغير المعطيات، خلال الزمن القريب المتوقع. وعلى الرغم من ان مصطلح “البرود” مستعمل ديبلوماسيا، الا أن المراد منه، في هذا الاستعمال، هو إبقاء تدهور العلاقة عند حد معين. انه تدهور متحكم فيه، بداعي ترك الزمن يتولى تجاوز سوء الفهم، او بالأحرى حالة البرود. الموعد غير الرسمي، المعلن عنه، بشكل انفرادي، من قبل الرئيس إيمانويل ماكرون، في وقت سابق، كان مبكرا لزيارة المغرب، لتجاوز حالة البرود هاته. وبالمقابل، يلاحظ ان الحرارة الملموسة، في العلاقة بين فرنسا والجزائر، بعد زيارة الرئيس الفرنسي الاخيرة، وبتاثير من أزمة الطاقة العالمية المستفحلة، من شأنها استدامة البرود مع الشريك الاخر إلى حين.
يدرك الفرنسيون حقيقة ما هو مطلوب منهم، سواء من الجزائر ام من المغرب، في سياق الصراع على النفوذ والهيمنة في المنطقة المغاربية. وبالنسبة إلى المملكة، فقد باتت لا ترضى الا بان تسير فرنسا على منوال الولايات المتحده الأمريكية وأسبانيا، في ما يتعلق بالموقف من قضية وحدتها الترابية.
هل هذا ممكن في الوقت الحالي، في ظل ارتفاع أسهم الجار الجزائري، نتيجة تحول الأنظار الأوروبية اليه، باعتباره أحد مصادر الحل في ما يخص ازمة الطاقة المستفحلة عالميا؟ وهل ما حصل لاسبانيا، المقتربة من الطرح المغربي، يشكل رادعا لفرنسا، المدمنة على “اللعب على الحبلين” اصلا؟
ما من شك في ان السلطات الفرنسية تدرك ان مصالحها المستدامة هي مع المغرب، لاعتبارات اقتصادية وامنية وجيوبوليتيكية. وعلاوة على ذلك، فسياسة الاعتدال المنتهجة مغربيا، والى حد الانحياز إلى المواقف الأوروبية، في كثير من الملفات، تدفع بان تكون هذه العلاقة أكثر رسوخا ووثوقية. لكن، ومع هذهِ الاعتبارات المعروضة، يمكن التساؤل عن الأسباب التي تجعل باريس تمعن في الانتظار، بحيث لا تبادر إلى تسخين العلاقة مع محور الرباط بشكل سريع. أليس ذلك ممكنا، مادام سوء الفهم لا يتعدى الجانب التقني في موضوع الهجرة، كما هو مصرح به رسميا من الجانب الفرنسي، على الأقل؟
يبدو ان سلطات الرباط ليست في عجلة من أمرها، مادامت تدرك حجم الثمن الذي تريد استخلاصه من فرنسا، عاجلا ام اجلا. ذلك ان الاتجاه، الذي يراد ان تستقر فيه الامور مع هذا الشريك، لا ينبغي ان يتخلف عما استقر عليه مع الشريك الاخر الإسباني. ومن هنا، فلا تردد من جهة الرباط، للدفع بالشراكة الإيجابية مع باريس الى حدودها القصوى، رعاية لمصالحها الاستراتيجية في المنطقة، إذا كان هناك إدراك لحاجة الاولى إلى تسوية “ملف الصحراء” بشكل نهائي. اما ما يتداول عن تغيير المغرب بوصلته الجيوبوليتيكية، في علاقاته الدولية، فذلك أمر سابق للاوان حاليا.
وإلى ان “تتحلحل” الأمور، يمكن تفهم درجة سوء الفهم الراهنة، وحجم الثمن المطلوب اداؤه من قبل الطرفين. مسألة التاشيرات، وفق الكوطا المفروضة على المغاربة، لدى المصالح القنصلية الفرنسية، منذ اكثر من سنة، مجرد ثمن أولي فوق الطاولة.