صور شخصية منسية: ماسح الأحذية (بقلم ذ. ابراهيم زرقاني)

الرجل الوحيد الذي لا ينظر أولا إلى وجهك بل إلى حذائك. ماسح الأحذية يريد أن يلمع حذاءك ويلمع صورتك للناس. أنت لا تنظر إلى شكله أو إلى وجهه، لأنه لا يترك لك الفرصة للكلام معه. ينحي على رجلك اليمنى ويبدأ بسحب الغبار عن حذائك الذي أهملته منذ مدة. تتتبع حركاته وهو منهمك في هذه المهنة التي لم تستسغ يوما ما حضورها في مشهد المدينة.

ماسح الأحذية يذكرنا أننا نتمشى ونخطط فوق هذه الأرض. كلما صادفته تراه يبحث عن أي وسيلة لإقناعك بأنك تستحق ان تهتم بتلميع حذائك. لأنه ربما أدرك أن الناس ينظرون إلى حذائك قبل وجهك. إذ بإمكانهم من خلال ذلك إدراك مستواك الإجتماعي ومعرفة من أي الأحياء المغبرة أتيت. لذلك ومن أجل التمويه والإعلاء من شأنك لابد لك من الاستسلام لماسح الأحذية كي تمر في سلام من أمام أعين قد تحط من شأنك.

أحيانا هناك من يحبون دعوة ماسح الأحذية وهم يرتشفون فنجان القهوة بالمقهى وهم يتأملون عناوين الجريدة، كي يكتمل المشهد الذي يريدون أن يرسموه لذواتهم كعلية القوم. حينما ينتهي الرجل من تلميع أسفله يضطر لطرق صندوقه الصغير كي يستفيق هذا الواهم من أحلام اليقظة.

ماسح الأحذية لا يلمع حذاءه وإن فعل ذلك، فإنه يبدو للاخرين كدعوة صامتة ومستفزة لمن بخل على حذائه بالظفر بتلك اللحظة التي سيصبح فيها رجلا مهما.

بعد سنوات طويلة يصبح ماسح الأحذية مطأطأ الرأس. السماء لا تعني له شيئا. بل إنه نسي شكلها ولونها. مايهمه هو الأرجل التي تتحرك..يعرف كل أشكال الأحذية. عيناه تتلقفان تلك الحركة القادمة في اتجاهه والتي يريد توقيفها بشكل حاسم وبإشارة سريعة من أصبعه في اتجاه المارين كي ينتبهوا إلى أن هناك خللا ما. حركة سريعة لكنها كفيلة بشد انتباه رجل شارد. إنها اللحظة الحاسمة والتي على ماسح الأحذية أن يستغلها كلاعب كرة ذكي. إذ يستغل انشغال الرجل بالنظر إلى رجليه بعدما اظطر للوقوف فجأة، يركض ماسح الأحذية لوضع صندوقه الصغيرة مؤكدا للرجل الواقف أمامه أنه من الأفضل أن يستسلم لهذا التصحيح السريع لوضع غير سوي. كما لو سلب عقل الرجل. لأنه يعرف ان الحرج أحيانا يجعل الناس يستلمون لأي وضع آخر يخرجهم من هاته الورطة. يمضي ماسح الأحذية منتصرا ويمضي الرجل أكثر ثباتا في مشيته.

ماسح الأحذية لا يتعرف علينا من وجوهننا، بل من مشيتنا وأحذيتنا التي لمعها من قبل. نراه هناك أحيانا مستسلما للقيلولة وقد أسلم رأسه للصندوق الذي تحول إلى وسادة. مشهد يتكرر أحيانا وكثيرا ما يعيد إلى الأذهان صورة رجل وضع مصيره قي قلب الصندوق.