“يجب أن نغير الحياة. يجب أن نغير كل شيء. لكن تغيير كل شيئ لا يعني تدمير كل شيء. بل إنقاد كل شيء”
بهذه المقولة لموريس بيلي، أنهى ألكسندر جوليان الفيلسوف الفرنسي تدوينته الأخيرة والتي ضمخها بهذا الاسم الذي لا يمكن إلا أن يكون دعوة للسفر دوما في طريق المعرفة الموجعة : “على هدى طريق نيتشة”.
تدوينة مؤثرة أتت لكي تستنهض كل القوى الكامنة في روح هذا الفيلسوف بعدما عرف لتوه إصابة صديق عزيز بمرض عضال.
كما لو هو إفصاح عن موت مرتقب، وكما كتب مرة عبد الكبير الخطيبي ” وحده الموت ينير وجه الفكر”، فإن لحظة الكلام التي جمعتهما كانت مشبعة بماء الكهوف العميقة للتأمل. تعرت الروح في عرس حزين للكلام. واستقر الصمت في لحظة و كما لو قطفت الأبدية اقتطفت رأسه وأودعته في مكان آمن في انتظار الذي يأتي ولا يأتي.
ماذا عسانا الآن أن نفعل ونحن لامحالة سنموت.
لم يكن في وسع جوليان سوى المشي وقلبه يغلي في قلب بركان شرس، وجهته النهر المطمئن لهاته الكآبة اليومية وإيقاع سريان الماء. يتوقف أمامه ويجثم على ركبتيه كما لو أصابه سهم غادر. هناك في هاته اللحظة المهولة رأى تلك المرأة التي مرت من أمامه، كما لو أن هذا المشهد سيدمي روحها ويعمدها بخوف عميق. استسلم لبكاء مر حيث يتلاشى كل شيء ولا يبقى سوى الإحساس بأن دموعا محنطة أفاقت كي تلتحق بدموع أخرى.
في قلب هذا البكاء، تناهت إليه صورته كفيلسوف ينثر نظرياته في وجه الآخرين وهاهو هنا ككثلة من حزن مهجورة على حافة نهر لا ينصت ولا يتكلم. ما جدوى كل تلك النظريات وهاهو عاجز هنا.
بعد هذا الطقس الأليم، نهض متثاقلا، لكنه تخلص من كل ارادة في التحكم في كل شيء. وكأنه يقول لنفسه “أنا لا أتحكم في كل شيء وهذا شيء رائع”
لاثبات في أي شيء، كما في الفرح والحزن والموت والولادة. مرحبا بقول نعم لكل شيء، للهشاشة، لكل قطع الفرح اللامشروط والذي يتخفى في دواخلنا.
في مثل هذه التجربة المتاخمة لحدود الخطر والتي تضعنا وجها لوجه أمام الموت، يستيقظ فينا فراغ الصحراء. هذا المكان الذي يستقبل بحفاوة كل أشكال الفراغ وكل غضب العواصف. مكان لا يؤمن بالثبات بل يقيم في قلب التحول لأنه هو معنى الحياة.