أثار قرار حرق جثمان مسلم من أصول مغربية في مدينة فرانكفورت استياء كبيرا وسط الجاليات المسلمة. إشكالية تؤرق المهاجرين المسلمين وتكشف عن تداخل أبعاد متعددة منها ما هو ديني وقانوني وأخلاقي. كما تطرح عدة أسئلة بات ضروريا إيجاد أجوبة لها.
لا تزال قضية حرق جثمان مواطن مغربي (أ، ك) في فرانكفورت، تثير مشاعر من الحزن والأسى وسط الجالية المغربية المقيمة في ولاية هيسن ومغاربة ألمانيا عموما. كما أن عائلة الفقيد لا تزال مكلومة جراء هذه الفاجعة التي ألمت بها. فبعد أسبوع على كشف القضية وبيان للقنصلية المغربية في فرانكفورت الذي طالب السلطات الألمانية بتوضيح ملابسات هذه القصية، خرجت إدارة المستشفى الذي توفي فيه الهالك ببيان توضيحي لتكسر قانون التقيد بالسر المهني حول هذه الحالة. يقول البيان: “نتأسف لحادثة الحرق خلافا للعادات الإسلامية ونبدي حزننا وتعاطفنا مع الأقارب”. ويضيف البيان أن المعني بالأمر “نُقل من مركز للأشخاص بدون مأوى إلى المستشفى يوم عشرين ديسمبر ولم تكن بحوزته أي أوراق ثبوتية ولم يقدم أي معلومات عن جنسيته ودينه وأسرته”. وعندما سئل عن عائلته رد “بأنه ليس على اتصال بها منذ فترة طويلة، وأشار صراحة إلى أنه لا يريد أن تعرف بتواجده بالمستشفى”. بيان المستشفى يقول إن الشخص البالغ من العمر 45 سنة كان في “وضعية صحية حرجة وأن حالته كانت تتطلب إجراء عملية جراحية، غير أنه رفض بالرغم من تنبيهه إلى أن ذلك قد يشكل تهديدا على حياته”، وأمام “إصراره وضدا على المشورة الطبية، تم تسريحه”. غير أن البيان يضيف أنه وبمجرد مغادرته لقسم الطوارئ سقط أمام باب المستشفى، فتم نقله على الفور إلى داخل المستشفى ليفارق الحياة في اليوم الموالي”. هنا أوضح لنا البروفيسور عبد الرحمن مشراوي رئيس سابق لمستشفى أمراض القلب والشرايين في المستشفى الجامعي فلانسبورغ: “أن الطبيب غير مخول له قانونا بإجراء أي تدخل حتى لو تعلق الأمر بسحب عينة من الدم من جسم المريض إلا بموافقته. فأي اجراء ضد إرادة المريض يعد اعتداء على جسم المعني بالأمر وهو ما قد يعرض الطبيب للمساءلة القانونية”. وفي حال رفضه على الطبيب أن “يقوم بتوضيح خطورة الأمر وتداعيات ذلك على صحته، وأن يسمح له بمغادرة المستشفى، والأمر نفسه يسري على المعلومات التي يدلي بها المريض حول هويته وأسرته. فلا يمكن إجبار المريض على الادلاء بمعلومات رغما عنه”.
إشكالات قانونية وبيروقراطية
يخضع قانون المقابر والدفن في ألمانيا لسلطة الولايات، فلكل ولاية نظام خاص بها. فوفقاً للمادة 16 من قانون المقابر والدفن بولاية هيسن، يجب دفن جثة الميت خلال مدة زمنية تترواح بين 48 ساعة و96 ساعة كأطول مدة بعد الوفاة. هنا لابد من فتح قوس بأن قانون الدفن في ألمانيا يشمل الحرق أيضا. فالقانون الألماني أعطى هامش التصرف إلى الجهات المعنية لاتخاذ القرار المناسب للتعامل مع الجثة. ففي حالتنا هذه يقول بيان المستشفى أنه تعذر عليه “تحديد هوية الشخص أو ديانته أو التعرف على أسرته”. ويقول المستشفى في بيانه إنه اتصل بإدارة المركز الذي كان يعيش فيه الفقيد من “أجل إمكانية العثور على عنوان للأقارب. وبعد حصولنا على عنوان ورقم هاتف، حاولنا الاتصال، غير أن الرقم كان خارج الخدمة، فاتصلنا بمصلحة حفظ النظام لمدينة فرانكفورت، وأكدت لنا شفويا أنها لم تصل إلى أي نتيجة”. غير أن مصلحة حفظ الصحة في فرانكفورت تقول في جواب رسمي لها أنها “لم تأخذ علما لا بالوفاة ولا بحرق جثة الهالك”. وتضيف الرسالة الجوابية التي نتوفر على نسخة منها: “إن إدارة المستشفى هي المسؤولة بحسب القانون، عن ترتيب دفن أي شخص إذا لم يتم العثور على أقارب المعني بالأمر في غضون الوقت الذي يحدده القانون، وعادة لا يوجد أي اتصال مع مكتب حفظ النظام العام وحتى فيما يتعلق بمسألة دفن السيد (أ، ك). فقانون ولاية هيسن يعطي بحسب المادة 13 في حالة “إذا لم يظهر أقارب الهالك” الحق في ترتيب أمور الدفن إلى الجهة التي وقعت فيها الوفاة وهي غير مُلزمة بإخبار أي جهة إدارية. إننا هنا أمام وضعية صعبة، وفي هذا السياق يرى أحد الخبراء القانونيين، “أنها ليست الأولى ولا الأخيرة التي قد تواجهنا. الأمر غاية في التعقيد خاصة عندما نجد أنفسنا أمام قانون حماية المعطيات الشخصية وتلبية رغبة المعني بالأمر”. فالأمر ليس بهذه السهولة بحسب الخبير القانوني. فحتى لو افترضنا: “أننا تأكدنا من ديانة المعني بالأمر، فهذا لا يعني أن أي جمعية إسلامية بإمكانها الدخول على الخط والقيام بإجراءات الدفن. فالأمر تتخلله تعقيدات كثيرة منها ما هو قانوني ومنها ما هو بيروقراطي، ومنها ما هو أخلاقي”، على حد قول الخبير القانوني.
كيف نتفادى ذلك في المستقبل؟
تتضمن هذه القصة أحداثاً متشابكة وتكشف عن إشكالية باتت تؤرق المهاجرين المسلمين في ألمانيا وفي أوروبا بشكل متزايد. وقد أثارت ردود فعل غاصبة، فتحت النقاش مجدداً حول إشكالية حرق الجثث في ألمانيا خاصة وأنه سبق وأن وقعت حالات مشابهة في صفوف مهاجرين ولاجئين من أصول مسلمة. فقوانين الولايات الألمانية المتعلق بالمقابر والدفن تشدد على أن الأمر موكول بالدرجة الأولى إلى كل شخص. وفي حالة إذا لم يترك المعني بالأمر وصية واضحة فإن القانون يعطي هذه الصلاحية للأقارب وذكرهم بالتدريج. فهذا الأمر قد يشمل أيضا الأشخاص الذين يعيشون داخل زواج مختلط، بل حتى الخطيب أو الخطيبة قد يقرر في طريقة الدفن، لذا من الأهمية بمكان ترك وصية واضحة في هذا المجال، كما يقول عبد الصمد اليزيدي الأمين العام للمجلس المركزي للمسلمين في ألمانيا:” “الوصية لها مكانتها المهمة في تشريعنا الإسلامي. ونحن في المجلس نوصي بكتابة الوصية وتوثيقها من أجل حفظ الحقوق، وخصوصا الحقوق الدينية، حتى تتم طقوس الجنازة والتغسيل والدفن حسب التعاليم الدينية الحنيفة”. غير أن هذه القضية قد تأخذ أبعاد أكثر تعقيدا في حالة الأشخاص مجهولي الهوية، أو الذين توفوا ولم يظهر لهم أقارب داخل الأجل الذي يحدده القانون للدفن.
لماذا يلجأ المشرع للحرق؟
عدم الالتفات إلى ديانة المتوفي قبل إحراق جثته في بعض الحالات، هو أكثر ما يثير الاستياء داخل أوساط الجاليات المسلمة في ألمانيا، لكن الإشكالية تكمن في عدم توثيق بعض المهاجرين لديانتهم في الوثائق الرسمية. هذا بالإضافة إلى قانون حماية الخصوصية الذي يقيد تدخل أي شخص خارج إطار ما يسمح به القانون. هنا لابد من التوضيح أن الحرق هو جزء طبيعي من الطقوس الجنائزية في القانون الألماني، وأصبح الاقبال عليه كبيرا سنة بعد أخرى بموافقة الكنيسة، فبحسب موقع ستاتيستا للبيانات فإن 76% من المتوفين في ألمانيا سنة 2020 اختاروا طريقة الحرق. هنا لابد من التوضيح أن الإدارة المعنية تلجأ إلى الحرق في ثلاثة حالات فقط، بناء على وصية من المعني. وفي حالة إذا لم يترك وصية فإن الأقارب تبعا لدرجة القرابة التي يحددها القانون هم من يقررون في ذلك. أما إذا وقعت وفاة وتعذر الوصول إلى أقاربه، فإن الإدارة قد تلجأ إلى الحرق، نظرا لأنه الأقل كلفة. لكن الحرق يثير جدلا كبيرا، خاصة بالنسبة للجاليات المسلمة وبعض الجاليات الأخرى. وفي هذا الصدد أوضح اليزيدي أن “حرق الجثث أمر لا يمكن أن نقبله تحت أي ذريعة، فالدستور الألماني يعطي للأديان مكانتها ويوصي باحترامها، لذا نحتاج في جميع مؤسساتنا بألمانيا حد أدنى من التحسيس بالتنوع الديني والتنوع الثقافي داخل المجتمع الألماني، حتى لا نسقط في مثل هذه الفاجعة سواء تعلق الأمر بنا كمسلمين أو بطوائف دينية أخرى قد تكون لها طقوس وشروط معنية تتعلق بالجنازة. لذا فإننا فالمجلس سنشتغل على المستوى الاتحادي والولائي والمحلي حتى لا تتكرر مثل هذه الأمور”.
المسؤولية مشتركة
“بالتعاون مع الجهات الرسمية المختصة، سنبحث سبل تحسين عمليات التحقق لدينا لنتفادى قدر الامكان حدوث مثل هذه الوقائع المؤسفة في المستقبل”. هذا ما ختم به المستشفى الكنسي بيانه حول النازلة. إن “البحث عن أسباب الخلل وإن كان موكولا للقضاء”، يقول رشيد البرادعي رئيس فرع هيسن للمجلس المركزي للمغاربة في ألمانيا، إلا أنه يضيف “ينبغي لنا استخلاص العبر والدروس من هذه النازلة”. ففي نظره “أنها مسؤوليتنا جميعا، فاهتمامنا لا ينبغي أن يقتصر على الناجحين من أبناء جاليتنا فقط، بل ينبغي أن يشمل الجميع حتى أولئك الذي يعيشون خارج المجتمع”. ويضيف البرادعي أن “المسؤولية مشتركة وعلينا كنسيج جمعوي تنسيق الجهود مع المستشفيات لحل هذه الاشكالات. لا غرو أن حوادث بهذا الشكل تسبب صدمة كبيرة للعوائل التي يصعب أن تستوعب مثل هذا المصير. غير أن عددا من الناشطين الجمعويين في فرانكفورت يعاتبون المستشفى على عدم اللجوء إلى خدمات الرعاة الدينيين المسلمين المتواجدين في المدينة أو خدمات مجلس الأديان في فرانكفورت الذي يضم ممثلين عن جميع الطوائف الدينية. وفي هذا الصدد يشدد عبد الصمد اليزيدي على التعاون المشترك حيث يقول:” ستكون لي جلسة مع مدير المستشفى من أجل إيجاد آليات حتى لا تتكرر مثل هذه الأخطاء. كما سنعمل بالتنسيق مع المؤسسات الألمانية من أجل تأهيل العاملين والأطر الذين يتعاملون مع مواطنين مسلمين سواء في دور كبار السن أو المستشفيات أو مراكز الإيواء أو حتى السجون للتحسيس بأبجديات التنوع الديني والثقافي”. يشار إلى أن هذه القضية لا تقتصر على ألمانيا فقط، بل أنها تكررت في عدد من الدول الأوروبية. وهو ما يستوجب تكثيف الجهود لإيجاد آلية فعالة للتنسيق مع السلطات المعنية بالأمر لتقليل تكرارها قدر المستطاع.