
كتبه: سعيد بوعيطة
كان وأخواتها
استعرنا عنوان هذه المادة من عنوان رواية «كان وأخواتها» للروائي المغربي عبد القادر الشاوي، باعتبارها عملا غير مسبوق في مجاله. كتبها ونشرها الشاوي وهو في السجن. لهذا، عدها الباحثون في تلك المرحلة، تعبيرا أدبيا عن أمور متداخلة أتت في سياق الإجهاز على التجربة السياسية المختلفة في مغرب كان مطبوعا على مستوى السلطة، بالاستبداد والتحكم. حيث عبرت هذه الرواية عن تجربة سياسية وأيديولوجية مطبوعة بحلم الشباب، من خلال تناولها التجربة اليسارية في البلاد خلال سنوات شائكة ومتوترة. مما جعلها تثير ردود أفعال في الأوساط الطلابية (ونحن منهم أنذاك)، وأوساط المناضلين بصفة عامة. ليعتبرها الكثيرون خير تعبير عن الحرمان والقمع بطريقة حيوية في غاية الفضح للأساليب القمعية الممارسة في السجون. هذه الأخيرة التي نعثها الشاوي بكان وأخواتها. نظرا لتعددها وتشابهها في البنى والوظائف. لهذا، فما يمكن أن تنعث به السجون في نص “كان وأخواتها”، يمكن أن ننعث به اليوم، مستشفياتنا العمومية. وإذا كان مستشفى أكادير القطرة التي أفاضت الكأس، فقد فاضت كؤوس أخرى في العديد من المدن المغر بية. لتشكل أخوات كان المتشابهة.
أخوات كان
في أحياء كثيرة من عاصمة جهة سوس الحديثة، كما في عاصمة عبدة (حاضرة المحيط)، وفي هوليوود إفريقيا الذائعة الصيت والمنسية في الوقت نفسه، وفي أرض البهجة (التي غابت عنها البهجة في الآونة الأخيرة) التي يعرفها الذاني والقاصي، وفي عاصمة الفوسفاط (أرض أولاد عبدون الشرقيين)، بالاضافة إلى العديد من المدن المغربية الأخرى، تتراص الفنادق الفاخرة، والأسواق الممتازة والمولات، والعمارات التي تلامس عنان السماء، والسيارات الفارهة التي تجوب الشوارع ليل نهار. لكن خلف هذا التحديث العمراني المادي الممسوخ، يقبع كابوس يومي للمواطن، يُدعى المستشفات العمومية. هذه الأخيرة التي يُفترض أن تكون العمود الفقري للرعاية الصحية ومظهرا من مظاهر الدولة الاجتماعية في مختلف جهات المملكة، تحولت (على الرغم من أنها كانت كذلك على مر الزمن السياسي المغربي) إلى مقابر جماعية، تبتلع الأرواح في صمت رهيب. حتى أصبح يُطلق عليها الشعار الذي يتداوله المغاربة بمرارة: “الداخل مفقود، والخارج مولود”. شعار تحول مع مرور الوقت من نكتة سوداء، إلى حقيقة مرعبة تُكتب بمعاناة المرضى والمصابين ومآسيهم.
مستشفى أكادير، القطرة التي أفاضت الكأس
حين وصلت المعاناة ذروتها، شهد يوم 14 سبتمبر 2025، تنظيم وقفة احتجاجية حاشدة أمام أبواب مستشفى أكادير. وبما أنه قد ”بلغت القلوب الحناجر” (سورة الأحزاب، الآية: 10)، فقد صرخ المواطنون بملء حناجرهم، مطالبين بإنقاذ ما تبقى من أرواح أهاليهم ودويهم قبل أن يبتلعهم الإهمال، ويصبحوا نسيا منسيا، ولا يبقى من أثرهم سوى قصص مرعبة ترويها الأجيال. لهذا، تحولت قناعات المواطنين إلى أن الصمت لم يعد خياراً، وأن السكون لم يعد حكمة كما علمونا في المدارس، وهكذا كان (وربما سيكون في مدن أخرى). لأن جل المدن تروي قصصها الخاصة عن أخوات كان. قصصاً تروي عن الإهمال، وعن الأروقة المظلمة، وعن الأدوية المفقودة، وعن رائحة العفن الممزوجة بالروائح السائلة منها والصلبة. تجعل المريض يشعر وكأنه دخل إلى متاهة من الجحيم. أما الممرات، فيتراص فيها المرضى لساعات طويلة، والمحظوظ منهم من يجد كرسيا متهالكا في انتظار موعده الذي يأتي وقد لا يأتي. أما الذي لا يجد كرسيا، فيلقي بجسده المنهك على أرض الممرات الباردة في تجاهل تام من الأطباء المنهكين أو الموظفين الذين حفظوا عن ظهر قلب كلمة السر:
ادهن السير يسير وبه ترطاب الخرازة
تجيب الطير من باب سوس لتازة
لأن ”ادهين السير” يعمل على تسريع الأمور، ويفتح ما انغلق من أبواب. وهنا، لم يعد المرضى مجرد أرقام يوزعها عليهم رجال الحراسة كل صباح في انتظار الدور، بل ضحايا نظام صحي فاسد يُفضل الربح على الحياة.
إلى أين نحن سائرون؟
حين انفجر البركان البشري، دوت صرخة جماعية، كشفت عن عمق الجرح، وأكدت أن المواطن لم يعد يثق في جدران هذه المستشفيات التي أصبحت رمزاً للموت. وعلى الرغم من أن الكل تساءل: لماذا وصل الأمر إلى هذه الحالة؟ فالمواطن لا ينتظر جوابا. لأن السؤال يحمل الجواب في طياته، وكل شيء أصبح باديا للعيان، وربما حتى للعميان. لأن هذه نتيجة سنوات لا تعد ولا تحصى من الفساد والإهمال الحكومي. حكومات تتقن الوعود الخاوية (أو الشفوي كما يقول المغاربة)، وتقدم الأرقام الزائفة. فعلى الرغم من كون المغرب قد عرف نموا اقتصاديا لا تخطؤه العين، فإنه يعاني من تفاوت إقليمي في الرعاية الصحية والتنمية البشرية. فإذا كانت المدن الكبرى (الرباط والدار البيضاء…الخ) تتوفر على عدة مستشفيات حديثة، فإن جهات أخرى (وما أكثرها)، لا حول لها ولا قوة.
وإذا كان الحل الوحيد يكمن في إصلاح جذري من خلال زيادة الاستثمارات، ومكافحة الفساد، وتمكين المواطن من حقوقه، لأنه يؤدي واجباته، فإنه إلى حين تلك الإصلاحات الجذرية، تظل المستشفيات العمومية شاهدة على فشل الحكومات التي دخلت في الماضي ولا تزال في سبات عميق، إلى أن أيقضها صوت الشعب القادر على إيقاظ النائمين من أصحاب المسؤولية، فهل سيسمعون؟ أم سيستمر هذا الرعب؟
قد تكمن الإجابة في الشوارع، أمام بوابات هذه المقابر الجماعية التي تدعى مستشفيات عمومية. حيث لسان الحال يؤكد على ربط المسؤولية بالمحاسبة. مما يجعلنا أمام سؤال آخر شائك أكثر من سابقه، مفاده: من سيحاسب من؟ هذه هي المعضلة يا سادة.


