أخبارفنون و ثقافةفي الصميم

لهذه الأسباب أدعم “إل ݣراندي طوطو” (عزيز داودة)

بقلم: عزيز داودة

لم تمر النسخة الأخيرة من مهرجان موازين مرور الكرام، وستكون علامة فارقة. فقد حضر عشرات الآلاف من المواطنين من جميع أنحاء المغرب وخارجه للاستمتاع بمختلف منصات المهرجان، حيث أشعلت موسيقى بوشار حماسهم، بالإضافة إلى تلك المغنية التي غنت ب”البلايباك”، مما أثار غضب من صرخوا قائلين: “احتيال”. ولكن الأهم من ذلك كله، كان هناك “إل ݣراندي طوطو”. هذا النجم الكبير في الموسيقى الحضرية المغربية والعالمية والذي لا يحبه الكثيرون، أو لا يحبونه على الإطلاق.

كان حفل “إل ݣراندي طوطو” مليئًا بالمشاهدين، ولكنه أيضًا أسال كثيرا من المداد، ردود لم تكن إيجابية على العموم. كانت غالبية هذه الردود انتقادية، وبعضها لاذعًا.

سأقولها مباشرةً: لستُ من مُحبي ” إل ݣراندي طوطو” أو أسلوبه الموسيقي. في سني، سيكون ذلك إهانةً لذوقي الموسيقي، فأنا الذي لا يُطربني في نسختي العربية إلا الدكالي، وعبد الحليم، وبلخياط، وسميح، وفريد، وأم كلثوم، وعبد الوهاب؛ وفي نسختي الفرنسية بريل، وريجياني، وبياف، وباربرا؛ وفي نسختي الإنجليزية ديلان، وكلابتون، وبي بي كينغ، وجيمس براون، وغيرهم.

مع ذلك، لا أستطيع الحكم على من لا يُعجبه، ولا على من يُحبّ هذا النوع الموسيقي من موسيقى “إل ݣراندي طوطو”، أي كل الشباب الذين يجدون أنفسهم مُنغمسين في هذا الأسلوب، والذين يتفاعلون مع نغماته ويتلذذون باستيعاب كلماته. إنه وقتهم وموسيقاهم.

هذا يُذكرني بأنه قبل ثلاثين عامًا، لم يكن من الممكن سماع نجاة اعتابو إلا صدفةً، أثناء مرورك بجانب كشك شرائط كاسيت في سوق أو سرًا في سيارتك. بدت موسيقاها مزعجة وكلماتها مبتذلة. استغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى نالت القبول أخيرًا، ثم أصبحت محبوبة.

ما يوصلني إلى هذا الموضوع هو أن في المسيرة الفنية لنجاة اعتابو و”إل ݣراندي طوطو” ما يشبه مرآة مكسورة: تصطدم الشظايا وتتناثر، ومع ذلك، عند التدقيق فيها، تعكس الواقع نفسه. واقع مغرب متعدد ومتمرد، ممزق بين تقاليده وتطلعاته إلى الحداثة. مغرب يظن نفسه على ما هو عليه، قليلًا كان أم لا. ما لم يكن عليه قط إلا في خيال زائف.

نجاة اعتابو هي الصوت الأجش لآل زمور، ذلك الصوت الذي برز في الخميسات، تحمله رياح الأطلس المتوسط ​​وهمسات مجتمع لا يزال مقيدًا بالشرف، ونظرة الآخرين، وتصلب التقاليد. في ثمانينيات القرن الماضي، عندما كانت المملكة تخطو خطواتها الأولى نحو الانفتاح الاجتماعي، تجرأت نجاة على غناء ما تهمس به الكثيرات من النساء في صمت: حبٌّ مُحبط، خيانة، تحرر، كبرياء مجروح، رغبة، وكل هذا بلغة فظة نوعًا ما.

أغنيتها “هادي كدبة باينة”: “إنها كذبة واضحة” تتردد صداها كصرخة، خافتة لكنها قوية، في أعراس الطبقة العاملة، وسيارات الأجرة المشتركة، وغرف معيشة الجالية المغربية في أوروبا. معها، يصبح الشعبي، موسيقى الشعب بامتياز، وسيلةً لتأكيد الذات. لا تعتذر نجاة عن كونها امرأة، فنانة، أمازيغية، ومتمردة. إنها تُزعج، وتُصدم أحيانًا، لكنها تُثبت نفسها. حتى أن موسيقاها استُخدمت في إعلان عالمي.

بعد أربعين عامًا، ها هو مغربي آخر يهزّ جدران اليقين: إل ݣراندي طوطو، ابن ضواحي الدار البيضاء، بشعره المصبوغ ووجهه وذراعيه الموشومتين وكلماته اللاذعة، قد رسّخ نفسه بطلًا للشباب المغربي المنفتح. معه، تتداخل الكلمات بالدارجة، وتتشابك مع الفرنسية والإنجليزية، وتغازل المحرمات بلا خجل: المخدرات، والمال، والجنس، وتحدي النفاق الاجتماعي. فبينما تُندد نجاة اعتابو بفتور، يُظهر توتو، ويدّعي، ويستفز.

بالتأكيد، تتباين الأشكال: نجاة تستقي من ذخيرة موسيقية عريقة، وألحانها تُذكرنا بحفلات زفاف القرى. أما توتو، فيستقي من مصادر موسيقى الراب العالمية، والتراب، ووسائل التواصل الاجتماعي، حيث تُعتبر النكات أهم من الصمت. لكن وراء هذه الاختلافات، ينبع نفس العصير من أعمالهما: التعطش للحديث، مهما كلّف الأمر، دون الشعور بالذنب تجاه أي شيء.

دفعت نجاة اعتابو ثمنًا باهظًا لكسرها المحرمات. ما زلنا نتذكر الانتقادات اللاذعة، والنظرات المُنتقدة، والآباء الغاضبين. لكن الزمن أثبت صوابها: فهي اليوم تحظى بالاحترام، بل وبالتقدير، وتُعتبر من أبرز الأصوات الشعبية في المغرب.

من جانبه، لا يزال “إل ݣراندي طوطو” يواجه العاصفة. سيستغرق الأمر وقتًا طويلًا قبل أن يُقبل ويُتسامح معه أخيرًا. جدل متكرر، واستدعاأت قضائية، واتهامات بالفحش… ومع ذلك، لا يبدو أن نجاحه سيتراجع. الأرقام تتحدث عن نفسها: ملايين المشاهدات على المنصات، وتأثير دولي متزايد، وشباب مغربي يتماهى مع غضبه وأحلامه. إنهم يغنون لواقعهم ويتماهون معه، شئنا أم أبينا.

في نهاية المطاف، منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى اليوم، وكما هو الحال على مرّ القرون، واصل المغرب سرد قصته من خلال أكثر فنانيه إثارةً للقلق. سبقتهنّ فناناتٌ أخريات: زهرة الفاسية، وفاطنة بنت الحسين، والعديد من الشيخات، المعروفات وغير المعروفات، أصواتٌ نسائيةٌ تُعبّر عن إحباطات وآمال جيلٍ مُكمّم.

يُجسّد “إل ݣراندي طوطو”، الصوت الجريء لشباب المدن الباحث عن التقدير والحرية، هذه الروح اليوم. ولا ننسى أن هناك آخرين سبقوه: فضول، وناس الغيوان، وآش كاين، وريبيل مون، ولبيغ، وغيرهم. كما كان هناك تقليدٌ من التمرد واللغة الجريئة في الملحون، بقصائدٍ لم نعد نجرؤ على غنائها اليوم، حتى في أكثر الأوساط حميمية.

زر الذهاب إلى الأعلى
Soyez le premier à lire nos articles en activant les notifications ! Activer Non Merci