
بقلم: زكية لعروسي

قالت لي أمي خيرة في زيارتي لها، وهي تمسح يديها من عجين الخبز: “زمان كان الواحد كيشد القلم باش ينجى من جفاف العقل… دابا شدوه باش يجيب شهادة للقراطيس ديال الزريعة وحتى لهاذ الشي ماتنفعش.”
نظرت إليها وأنا أقرأ تقريرا عن تفشي ظاهرة ” السير الذاتية المزيفة” في أوروبا، فابتسمت بمرارة: أوروبا “تكتشف” ما نحن غارقون فيه منذ سنوات، ولكن بصيغة مغشوشة أكثر “تطريزا” ووقاحة. نحن لا نزيّن السيرة الذاتية فقط، بل نزيّف التاريخ الأكاديمي، ونجمّل العجز، ونصبغ الغباء بالذهب.
الديبلومات صارت ماركات… الدكتوراه أصبحت أحمر شفاه معرفي، لا يوضع إلا عند تصوير البروفايل المهني. ومن لا شهادة له، عليه أن يدفع، أو يساير، أو يبيع. أين هي الجامعات؟
سألت أمي خيرة، فردّت بدون تردد: “الجامعات؟ ابنتي، ولات بحال طابلة العرس: المهم يبان فيها كلشي مزوّق، حتى ولو الطاجين خاوي.”
بحوث تشترى بالكاش، رسائل دكتوراه تكتب في “المراكز المتخصصة في الكتابة الأكاديمية”، أما لجنة المناقشة، فغالبا ما تكون لجنة تصفيق. أطروحات مشكوك في نسبها، مقدّمة في حفلات تنصيب الشهادات مثل حفلات الأعراس… والأدهى؟ الكل يعرف، والكل ساكت. وكأن بيننا “عهد أوميرطا”: لا تفضحني، لا أفضحك.
أمي خيرة لم تكن تعرف الإنجليزية ولا تقرأ جريدة فرنسية، لكنها قالتها بالفطرة: “اللي باع عقله، مايستحقّش كرسي فالقسم، يستاهل كرسي فالحانوت.”
لقد صرنا نعيش عصر الشهادات للزينة، لا للعلم. الدكتوراه تحوّلت إلى ديكور فوق البيانو، والماستر إلى بطاقة دخول للنخبة المزيفة.
لا تسألني عن جودة التعليم، فالأرقام تفضح: 65% من السير الذاتية مليئة بالكذب، و85% من الناس يرونه شيئا عاديا… أي عادي جدا أن تزيف هويتك المعرفية، فقط لتدخل سوق العمل ببدلة أنيقة من الوهم.
أما أنت، أمي خيرة، فكنت تحلمين أن تصبحي أستاذة رياضيات، وها أنا أقول لك اليوم: “حتى لو كنت لم تدخلي الجامعة، فزجلك، وذكاؤك، وحكمتك، أنفع من مئة أطروحة مستنسخة من غوغل.” أليست مصيبتنا أكبر من مجرد شهادات مزيفة؟
إنها مصيبة مجتمع يصفق للمتملق، ويكافئ المنافق، ويقصي من تعلّم بشرف. إنها أزمة ضمير، أزمة أخلاق أكاديمية، أزمة بنية معرفية انهارت بلا إنذار.
في هذا الزمن، من يقاوم التزوير يبدو كالأحمق، ومن يشتري ديبلومه يمنح وظيفة، وتقدير، ومكانة اجتماعية… بل يستدعى ليحاضر في “الأمانة العلمية”!
قالت أمي خِيرة، وهي تنظر من النافذة إلى الشمس التي بدأت تغرب: “اللي ختار يلبس سروال فوق عقلو، ماخاصّكش تسوّلو فين اختفى الضمير.”
إنها ليست نكتة. بل هي مأساة تدار كفيلم ساخر طويل، ضحكته باكية، نهايته مفتوحة على خراب أكبر مما نتخيل.
فيا وزارة التعليم، يا مسؤولين، يا أساتذة، كفانا تزويقا، كفانا تبسيما، كفانا دفنا للرؤوس في رمال الصحراء. إذا لم تتحرّكوا الآن، فلن يقال فقط “الدليعة انفجرت”، بل سيقال: “انفجرت أمة… وبارك من التسطية.”






