
بقلم: حنان الأسمر
في حياة كل واحد منا ذكريات لا تُنسى، لا لأنها جميلة، بل لأنها موجعة. ومع ذلك، هناك نوع من النسيان لا علاقة له بالزهايمر أو التقدّم في السن، بل هو نسيان ناعم، هادئ، وسلس. فجأة تشعر أن طفولتك بعيدة، وأن لحظات كان يُفترض أن تبقى محفورة داخلك قد بهتت مثل صورة قديمة تلاشت ألوانها مع الزمن.
قد تتذكر أماكن، أشخاصاً، مواقف… لكن دون أن ترافقها الأحاسيس. وكلما سُئلت “هل تتذكر؟”، تكتفي بابتسامة خفيفة وتقول: “لا، لا أتذكر.” لكن الحقيقة أنك تتذكر، فقط… عقلك يغلق الصندوق.
الكبت ليس خياراً، بل آلية دفاعية.
خلافاً لما يعتقده البعض، نحن لا ننسى بإرادتنا. ما يُعرف بـ “الكبت غير الواعي” ليس قراراً نتخذه بل هو استجابة نفسية تلقائية، آلية دفاعية تسعى لحمايتنا لا من الحدث نفسه، بل من الألم الذي سببه لنا.
كان سيغموند فرويد أول من وصف الكبت كوسيلة دفاعية، فقال: “العقل الباطن لا يمحو الذكريات المؤلمة، بل يخزنها في أدراج داخلية، حتى يحين الوقت الذي نكون فيه مستعدين لمواجهتها.”
لكن هذه الأدراج لا تبقى مغلقة إلى الأبد. الكبت ليس صمتاً… له صوت. قد يظهر في كلمة تزعجك دون سبب، في نوبة غضب مفاجئة، في حساسية مفرطة، في تعلّق بشخص يؤذيك، أو حتى في ألم جسدي لا يجد له الأطباء تفسيراً.
وحين تفتح هذه الأدراج، فإن الذكريات تطفو فجأة: في حلم، في نوبة بكاء، في انهيار صامت.
لماذا يجب أن نواجهها؟
لأن التقدّم إلى الأمام يتطلب خفّة داخلية. لا يمكننا العيش بسلام ونحن نحمل ألماً غير مفهوم. الكبت لا يُشفى بالنسيان، بل بالمواجهة، بالحكي، بتسمية الوجع، باحتضان الطفل المجروح في أعماقنا. لا لنغرق في الماضي، بل لنفك قبضته عن حاضرنا.
قبل أن تقول: “أنا لا أتذكر”، اسأل نفسك: “هل فعلاً لا أتذكر؟ أم أن هناك صندوقاً مغلقاً أخاف من فتحه؟”
التعامل مع هجوم الذكريات: كيف نحمي أنفسنا من الانهيار؟
1. لا تهرب… واجه بحكمة.
الهروب حل مؤقت، لكنه ليس دائماً. كلما أنكرنا الذكريات، عادت أقوى. الأفضل أن نعترف بوجودها دون أن نسمح لها بالتحكم فينا. تخيّلها كفيلم قديم تشاهده من الخارج، دون أن تكون أحد أبطاله.
2. فرّغ مشاعرك قبل أن تنفجر.
المشاعر المكبوتة مثل بركان. إذا لم نخفف الضغط، جاء الانفجار مؤلماً.
اكتب: عبّر بحرية، وكأنك تتحدث مع صديق لا يحكم عليك.
تحدث إلى شخص موثوق: قد تكون المشاركة أداة للشفاء.
تأمل أو صلِّ: أحياناً يكون الهدوء أفضل من كل الكلمات.
3. أعد برمجة العقل… غيّر الرواية.
العقل لا يحكم على الذكرى بموضوعيتها، بل بما نشعر به تجاهها.
فبدلاً من التفكير في موقف على أنه “إهانة”، انظر إليه كـ “درس”.
وبدلاً من أن تقول “كنت ضعيفاً”، قل “كنت في طور التعلّم”.
بهذا التحول، تفقد الذكريات سطوتها تدريجياً.
4. ابقَ في اللحظة الحالية.
الماضي انتهى، والمستقبل لم يأتِ بعد. ما نملكه هو “الآن”.
مارس تمارين الوعي اللحظي: تنفّس بعمق، لاحظ ما حولك، اشرب شيئاً دافئاً، استمع للموسيقى، امشِ حافي القدمين… عِش اللحظة بكامل حواسك.
5. اطلب الدعم إن لزم الأمر.
إذا بدأت الذكريات تؤثر على حياتك اليومية أو تسبب لك قلقاً أو اكتئاباً متزايداً، فطلب المساعدة من مختص نفسي ليس ضعفاً، بل شجاعة. أحياناً نحتاج أدوات خارجية لفهم عوالمنا الداخلية المعقدة.
ختاماً:
الذكريات المؤلمة ليست وحشاً نخشاه، بل جزء من حكايتنا. وعندما نتعامل معها بوعي، ونمنحها الاحترام الذي تستحقه، تصبح أقل تهديداً، ونصبح نحن… أكثر تحرراً.