أخبارفنون و ثقافة

الأبدية عبر كلمات مبتورة

بقلم: زكية لعروسي

كما يتنفس البحر في عزلة صيفية ثقيلة، يتنفس الكتاب من خلال تلك الأنفاس المتقطعة بين الأوراق، بين الكلمات التي تسابق الزمن في محاولاتها للإمساك بالهواء المتسرب من داخلنا. إن الكتابة، في معناها الأعمق، ليست مجرد ترف فكري نلجأ إليه للهرب من قسوة العالم، بل هي تدفق الوعي الذي لا يمكن السيطرة عليه. هي الاستغاثة التي نصرخ بها في وجه العدم، حتى وإن كانت تلك الاستغاثة تبدو في لحظات كثيرة ضائعة، بل وكأنها لا تجدي نفعا.

إنّ المثقف، عندما يواجه هذا العالم المتسارع بكل متغيراته المتشظية، لا يجد أمامه سوى هذه الكلمات التي أبت أن تكون مجرد أدوات للعبور. الكلمات التي تتحول إلى قوة سرية لا نعرف أين تبدأ ولا أين تنتهي. ربما نحن نكتب، لكننا في واقع الأمر نُكتب من قِبَل هذه الكلمات. نحن محكومون بها، وهي التي تُحركنا، تعذبنا، وتُحيينا في ذات الوقت. ولكن هل من العدل أن نعتقد أن الكتابة تأتي في لحظات من السلام الداخلي؟ هل يمكن أن يكون الكمال في الفكر شرطا للكتابة؟

إذا كانت الكتابة طريقا للهروب من الضجيج، فهي أيضا طريق للعودة إلى أعماق الحقيقة التي لا نجرؤ على مواجهتها. إنّ الكتابة في واقعنا المعاصر تصبح أكثر من مجرد فعل تعبيري، تصبح صراعا مريرا على الحفاظ على هوية الفرد، خاصة في المهجر، على الحفاظ على الذات، على فكرة الوجود.

لكن في كل كلمة نكتبها، هناك شظايا من الموت. نحن نكتب لكي نثبت شيئا في هذا العالم الفاني، شيء قد يكون أكثر صدقا من الوجود نفسه، وقد يكون أقل من الحقيقة التي نتخيلها. نحن نكتب ذاكرتنا الوطنية. الكتابة، إذا، ليست سبيلا للتحرير فحسب، بل هي إقرار بالتحمل، بالجلوس في الظل في انتظار اللحظة التي نُختبر فيها. وفي تلك اللحظة، عندما يصبح الكاتب هو الجريح والمحيط هو القاتل، هل يمكن أن يجد الكاتب في نفسه الطاقة ليحارب؟ وهل سيبقى القلم سلاحا مقدسا أم مجرد أداة لتبرير الجرح؟

قد يظن البعض أن الكتابة هي مجرد خربشات، محاولة لتغيير العالم، لكنها في الحقيقة تغيير لنفس الكاتب أولا. كل قلم يخط كلمة، ليس فقط لأنّه يريد تغيير العالم، بل لأنه يريد أن يغيره ليعيد نفسه إلى عالمه الفاقد. إن الجروح التي تكتب بالدم هي جروح لا تندمل، جروح تفتح الأفق، ثم تُغلقه. وإذا كان المثقف في كل عصر يتعرض لهذا التمزق، فما الذي يجعله مستمرا في الكتابة، مستمرا في الكفاح ضد الظلمات؟

الجواب يكمن في تلك المسافة الضبابية بين الشك واليقين، بين أن نعيش الحياة كما هي وبين أن نسعى لتغييرها لتصبح أكثر صدقا. لكن هل نحن مستعدون أن ندفع الثمن؟ هل نحن مستعدون لأن نكون شهداء الكتابة في وقت أصبح فيه النفاق هو القاعدة؟ عندما يتنفس العالم على مرأى ومسمع من الجميع، كيف للمثقف أن يظل صامدا، بينما هو مُحاصر بأصوات قد تُسمع في العالم كصوت ضياع لا يمكن الفكاك منه؟ هل يليق بالكاتب أن يكون في قلب السلطة؟

هل يليق له أن يظل مخلصا لفكرته، أم يجب عليه أن يساير؟ ولكن أي سلطة يمكن أن تحتويه إن لم تكن سلطة الحقيقة؟ إذن، ربما تكون الكتابة هي السلطة الوحيدة المتبقية، السلطة التي لا تُعطى بل تُنتزع، التي لا تُخضع للظروف بل تُصنع من جديد في كل لحظة.

في كل مرة يُطلَق فيها قيد الكلمات، في كل مرة يُرفع فيها القلم، يُخلق عالم جديد. ربما يكون العالم متهدما، وربما يكون ممزقًا من الداخل، ولكننا نكتب لنبني. لا نبني عالما ماديا بل عالما روحيا. نبني الكلمات التي تبقى، نبني الأفكار التي تطوف على مدار العصور. وإذا كانت الكتابة في أعماقها نداء للحرية، فإنها أيضا بصيرة لليقين، يقين مفقود يُرجى في الكلمات.

لكن الكلمات لا تستطيع أن تغلق فجوات العالم. لا تستطيع أن تصلح كل الجروح. إنها مجرد لمسات عابرة على سطح الماء، لكنها تترك أثرا طويلا في الزمن، في التاريخ الذي لم يُكتب بعد. إن الكتابة، إذا كانت فعلا لإصلاح العالم، فهي في الأساس إصلاح للذات أولا. هي لحظة التمرد على الزيف، هي لحظة الوقوف بوجه الحقيقة المظلمة التي تقبع في أماكن لا نتجرأ على اكتشافها.

لقد بدأنا الكتابة في البداية من مكان ما داخلي، من عمق لا نعرفه تماما. بدأناها وكأنها رحلة للبحث عن الذات. وكما بدأناها، نجد أنفسنا الآن على حافة اللاعودة. لأن الكتابة، حين تُخطّ بصدق، تصبح العودة إلى الأبدية، تصبح مغامرة وجودية تكتب عنها الأرواح التائهة عبر العصور، أرواح ترفض الزيف وتصرخ من أعماق الزمن، أرواح تنتظر من يصدقها. الكتابة ليست مجرد سطور، بل هي مأساة الإنسان الذي يحاول أن يجد نفسه في عالم غريب عن ملامحه.

وهكذا، نصل إلى النهاية التي لم نرغب فيها، ولكننا قد نراها بداية. النهاية التي ربما تُشعل المزيد من الأسئلة، وتترك فجوة لا تنتهي في الفهم. ربما كانت الإجابة التي يسعى إليها الكاتب قد تبددت في الفراغ، لكن الفراغ نفسه هو الإجابة. إنها اللحظة التي تكتب فيها عيوننا دموع الحقيقة، ونكون نحن من كتبناها.

زر الذهاب إلى الأعلى
Soyez le premier à lire nos articles en activant les notifications ! Activer Non Merci