
بقلم: زكية لعروسي

قُبّة البالي الكبير في باريس تلمع، والمغرب ضيف شرف على واحد من أضخم معارض الكتاب في العالم. الأعلام مرفوعة، العبارات منمّقة، الصالونات مرتّبة بدقّة، والوجوه المنتقاة تتناوب على المنصات… لكن شيء واحد كان مفقودا: المثقف المغربي في المهجر.
غُيّب كما يُغيّب دائما. لا دعوة، لا منصة، لا ذكر. كأنه لا يكتب. كأنه لم يُهاجر بالكتاب والوجع والحلم. كأنه ليس من هذه الأرض، ولا من هذه الثقافة. أهذا هو الاحتفاء؟ هل صالون بهذا الحجم، ومغرب ضيف شرف، أين المثقف الحقيقي؟ أين المفكر الذي حمل اسم المغرب إلى منابر العالم؟ أين الشاعر الذي نشر في المنافي بلغته الام العربية؟ أين الكاتبة التي كتبت عن الوطن بلغته وبغير لغته؟ أين الذاكرة؟ وأين الحقيقة؟
لا أخفيك، قارئي العزيز…
ذهبت إلى “الصالون الكبير للكتاب” في باريس، بروح مليئة بالحب، بقلم مستعدّ لأن يُمجّد كُتّابنا، يُحاور كتبهم، ويغنّي لمغربي الذي ما زال يسكنني حتى في البُعد. ذهبتُ وكلي أمل… أن أعود إليك بنصّ دافئ، يشبه أفراح الوطن. لكنني عدت باكتئاب حاد.
عدت بغصّة في القلب وارتعاش في الحرف. فاعذرني إن كانت كلماتي مشوّشة، غاضبة، حزينة… فأنا لست مجرّد “كاتبة فكرة”، أنا إنسانة. شاعرة. والشاعرة لا تكتب لأن الحدث وقع، بل لأنها وقعت فيه. الشاعرة لا توثّق… بل تتوجّع. لا تُحصي الأسماء، بل تسمع الندوب. في ذلك الصالون، وسط الديكور الفخم، والعناوين المذهّبة، والمداخل الأنيقة… لم أجدني. لم أجدنا. لم أجد أحدا منّا ممثلا. كنت شبحا كالعادة، كما نحن دائما في مثل هذه المناسبات. أشباح الثقافة المغربية المهاجرة. نأتي بلا دعوة، ونغادر بلا أثر. كأننا لم نكتب، لم ننشر، لم نحلم، لم ننزف.
نعم، قارئي…
اليوم لا تكتب الكاتبة، بل الشاعرة. الشاعرة التي هاجرت ومعها ذاكرة كاملة، كتب كاملة، قلب يشتاق للهوية، وعقل لا يختصر في بطاقة. الشاعرة التي نزفت هذا النص من جرح إقصاء، من وجع تهميش، من خذلان متكرّر. انا الآن روح تنزف من الكلمات، شاعرة تكتب بحرقة الوجع، انا صرخة من المنفى والمنفيين.
قارئي العزيز،
حين يُسأل عن المثقف المغربي في المهجر، يُجاب بجُمل فارغة، بتمتمات رسمية، وبخطابات بلا حرارة. لا أحد يعترف بوجودنا، إلا حين يُراد ملء فراغ بروتوكولي. لكننا لسنا ديكورا.
نحن وجع الوطن حين يصبح بعيدا. نحن مرآته حين تتكسّر الصور الرسمية. لم أُغطّ الحدث، لأني لم أجد نفسي فيه. لم أكتب عنه، لأنه لم يكتبنا. لم أُصفّق، لأني لا أملك وجها مزيفا.
نحن هنا… لسنا في الهامش، بل في أصل السؤال. لسنا في الخلفية، بل في قلب القضيّة. وإن كانت مؤسسات الثقافة لا تملك شجاعة الاعتراف، فليكن قلمنا أصدق من كل المنابر. نحن لا ننتظر إذنا لنكتب، ولا موافقة لنكون. نحن ذاكرة هذا الوطن، حتى حين يُنكرنا. نحن صوته، حين يخفت. وصرخته، حين يصمت. فبين وزارة الثقافة، والمؤسسات يجد المثقف نفسه في مذبحة الصمت.
وبين المؤسسات، يقف المثقف المغربي المهاجر كـ”كائن نكرة”. لا أب له، ولا صديق، ولا كتف. كل من مروا إلى باحة الصالون كان معهم “البطاقة الصحيحة”: الكتاف. أما نحن، فأقلان نُطارد بالحبر. كتّاب لا نملك سوى المعنى. يا للعار… ويا للخذلان! كيف لمثقف مغربي، هاجر وطنه حاملا كتبه، وأفكاره، وأحلامه، ووجعه، أن يُعامل كأنه لا أحد؟ كأنه لا يُجيد الكتابة؟ كأن صوته لا يُناسب البثّ الرسمي؟ أتحدث بمرارة، لا طلبا لتصفيق، بل لأن هذا الخذلان لم يعد يُحتمل.
سمّونا “كُتاب المهجر”، لكن عن أي مهجر يتحدثون؟ نحن المهجر الذي لم يُدعَ! نحن المهجر الذي يُقصى لأنه لا يُساوم!
لا يا سادة،
قد ترمّم الحجارة… لكن من يرمم إنسانا جُرّد من الاعتراف؟ من يُعيد كرامة مثقف كُسر في المنفى؟ من يعترف بأن المغرب ليس جغرافيا فقط، بل ذاكرة ووجع وحنين؟
بالله عليك قارئي العزيز،
هل الثقافة ملكية خاصة أم وعي جماعي؟ من أعطاكم حق احتكار الثقافة؟ ملكنا محمد السادس ملك ابناء المهجر كذلك وراعيهم، ولون جلدنا من نفس عفر المغرب الحبيب. كأن من لا تطأ قدماه أرض الوطن، يُسحب منه صك الانتماء.
وهل تقاس الثقافة بدرجات الانتماء الاجتماعي والاسماء اللامعة؟ أي عبث هذا؟ أي استخفاف هذا بالعقل المغربي المهاجر؟ من قال لكم إن العقل المغربي كامل في الداخل؟ فنصفه هنا… في المنافي. المثقف المغربي المهاجر: ناقص الحقوق في وطنه. حين يسأل المثقف المغربي في الخارج، يجب أن يُؤخذ على محمل الجد. يجب أن يُنصت إليه، لا أن يُشكر بكلمات فارغة. هذا المثقف، يا سادة، ليس “ديكورا” او ” له ذرة واحدة من العقل او حمصة في العقل” ولا “لقطة في فيديو رسمي”. هو جزء من تاريخ هذا البلد الثقافي.
كفى عبثا!
كفى تبخيسا لعقول مثقفي المهجر! كفى تهميشا لذاكرتنا! نحن لسنا تماثيل للزينة. نحن أبناء المنفى، وحراس الحرف، ورُسل الذاكرة الحقيقية. إذا لم يكن لنا موضع قدم في الصالونات… فصوتنا يكفي لزلزلة الصمت. إذا لم يُدعَ المثقف المغربي في المهجر… فهو سيكتب من الخارج.
أيّ ثقافة هذه التي تضيق بأبنائها أينما وجدوا ولا تسع من على الارض وخارجها؟ وأيّ خطاب ذاك الذي لا يسمع إلا صدى نفسه؟ الثقافة التي لا تعترف بنا ليست ثقافتنا، والمنابر التي لا تحتمل صوتنا… لا تستحقنا. نحن لسنا ظلالا، ولسنا صدى مكررا بالصالونات فقط.
نحن الفكرة التي لا تُحاصر، والصوت الذي لا يُطفأ، والحبر الذي لا يجفّ. نكتب لأننا نعرف، نصرخ لأننا ننتمي، ونوجع لأن الوطن لا يزال فينا. نحن هنا… بلا وسطاء، بلا وساطات، نحن الفكرة التي لا تُختصر، والذاكرة التي لا تُمحى، والحضور الذي لا يُستأذن. نحن هنا… بثقلنا، بوجعنا، وبدون إذن.






