بقلم: زكية لعروسي

في ظلمات الزمن، حيث تتشابك الأقدار وترقص الأرواح بين الممكن والمحتوم، هناك لحظة يتلاشى فيها الحاجز بين الإنسان والسماء. إنها ليلة القدر—الليلة التي قد تعيد تشكيلك من جديد.
ليلة القدر ليست مجرد تاريخ محفور في التقويم الإسلامي، بل هي نافذة مفتوحة على الغيب، لحظة يتجلّى فيها القضاء الإلهي بأبهى صوره. إنها الليلة التي يصبح فيها الإنسان في مواجهة مصيره، يتأمل أثرها على حياته وحياة من حوله، متسائلًا: هل القدر حتمي أم قابل للتبدل؟ هل يمكن أن تعيد هذه الليلة رسم المسارات المرسومة؟
إنها ليلة لا تشبه غيرها، حيث تنقلب المعادلات، ويعاد ترتيب الصفحات المكتوبة، وتفتح أبواب الأسرار لمن يملكون المفاتيح. لكنها ليست مجرد فكرة إسلامية، بل ظلّت تتردد أصداؤها عبر الأساطير القديمة، حيث تحدثت الشعوب عن ليال خارقة، توقفت فيها عقارب الزمن، وتشكلت المصائر من جديد. فماذا لو كانت ليلة القدر بوابة لفهم السرّ الأكبر: كيف يمكن للإنسان أن يؤثر في قدره؟
عبر التاريخ، تناقلت الحضارات قصصا عن ليال غامضة، تفتح فيها أبواب العوالم العليا، ويصبح الإنسان قادرا على رؤية ما وراء حجاب الواقع. فهل ليلة القدر هي تلك اللحظة التي تتماهى فيها الإرادة البشرية مع المشيئة الإلهية، ليعاد رسم خارطة الحياة؟
-المصريون القدماء: آمنوا بـ”ليلة العبور”، حيث يمكن للأرواح التواصل مع الآلهة وتغيير مصيرها بالدعاء والطقوس.
-الفرس (الزرادشتية): يؤمنون بـ”الليلة المقدسة”، حيث يُفتح كتاب القدر، ويُسجَّل فيه مصير البشر بناءً على أعمالهم.
-الميثولوجيا الإسكندنافية: تتحدث عن “ليلة الملاحم”، حيث تعيد الآلهة ترتيب خطوط الأقدار، وتقرر من سينجو ومن سيهلك.
إن تكرار هذه الفكرة في ثقافات متعددة يطرح تساؤلًا: هل هناك لحظات في الزمن تُعاد فيها كتابة المصير؟
تناولت الفلسفة فكرة القدر منذ القدم، فكيف رأى الفلاسفة هذه المعضلة؟
-أفلاطون، اعتبر أن الكون محكوم بنظام إلهي دقيق، لكن الإنسان يمتلك حرية نسبية داخله.
-أرسطو: ميّز بين “الممكن” و”الضروري”، ورأى أن بعض الأقدار محتومة، بينما يمكن التأثير على أخرى.
-الغزالي: رأى أن القدر قد يتغير بالدعاء، حيث يتفاعل الإنسان مع الإرادة الإلهية عبر العبادة.
-ابن عربي: اعتبر أن القدر ليس ثابتًا بل هو تجلٍّ مستمر للإرادة الإلهية، مما يجعل ليلة القدر لحظة استثنائية في الكشف.
-نيتشه: رغم إلحاده، تحدّث عن “العود الأبدي”، وكأن كل لحظة هي ليلة قدر جديدة لمن استطاع إدراكها!
أما في التصوف، فليلة القدر ليست فقط وقتا لاستجابة الدعاء، بل هي لحظة كشف وتجلي، حيث يُزال الحجاب بين العبد وربه، ويصبح الإنسان شاهدا على إشارات تغيّر مساره.
تتنزل فيها الملائكة كجيش غير مرئي يحمل مفاتيح الزمن.
تُفتح السجلات الخفية، ويُعاد ترتيب الطاقات الروحية.
يختفي الزمن المألوف، حيث تعادل الليلة ألف شهر، مما يوحي بتكثيف الزمن وتحوله إلى نقطة مفصلية في القدر.
فهل وهل يمكن إذن تغيير الأقدار في هذ الليلة؟
يرى البعض أن القدر نوعان:
-محتوم: لا يتغير مهما حدث.
-مُعلّق: يمكن أن يتغير بالدعاء والعمل الصالح، وفقًا للحديث النبوي: “لا يردّ القدر إلا الدعاء.”
في ليلة القدر، يصبح الإنسان شريكا في كتابة مصيره، وكأن نافذة القدر تفتح لمن أراد إعادة رسم حياته.
ليلة القدر ليست مجرد حدث سنوي، بل يمكن بلوغها في أي لحظة إذا استيقظ وعي الإنسان. إنها فرصة لإعادة التكوين الروحي، ولذا:
-الدعاء وفق الغزالي ليس مجرد طلب، بل إعادة برمجة للقدر.
– التأمل وسيلة لفهم الإشارات الكونية وتوجيه المسار.
-النية الصافية تمتلك قوة خالقة، يمكن أن تعيد تشكيل الواقع.
ليلة القدر: لحظة كونية لا تتكرر.
فهي ليست مجرد ليلة عابرة، بل هي نقطة التقاء بين ما كان وما سيكون، لحظة يتدفق فيها الزمن بشكل جديد، وتصبح الحياة كتابا مفتوحا لمن يجرؤ على إعادة كتابته.
إذا كانت كل الأساطير تتحدث عن ليلة سحرية تغيّر الأقدار، فإن ليلة القدر قد تكون أعظمها، لأنها اللحظة التي تمنحك قدرة أن تكون من تريد أن تكون. فهل سنكون مستعدين لاستقبالها؟