بقلم: الكاتبة زكية لعروسي

حين انطلقت ثورات الربيع العربي، ظنّ البعض أنها بداية لعصر جديد، عصر تتحرر فيه الشعوب، ويتنفس فيه العقل العربي هواء نقيا بعد عقود من الركود. غير أن تلك الآمال سرعان ما ذبلت، وكأن فصول التاريخ تتلاعب بنا؛ لم يكن الربيع ربيعا، ولم يكن الخريف مجرد استراحة، بل تحول إلى فصل دائم، بينما بدايات الصيف اللاهبة لم تحمل سوى الجفاف السياسي والثقافي.
في التراث العربي، تحدث الجاحظ عن تعاقب الفصول لا كمجرد تغيرات طبيعية، بل كرمزية لدورة الحياة والتفكير. كان الربيع زمن النماء، والخريف زمن التدبر، والشتاء وقت الانكماش، لكن هل ما زالت لهذه الفصول أي معنى في واقعنا؟ أم أننا قد دخلنا زمنا بلا فصول، حيث الفوضى وحدها تسيطر؟
لطالما كان للفصول دلالات أبعد من الطقس، فالجاحظ والفلاسفة كانوا يرون في الربيع رمزا لازدهار الفكر، حيث تزدهر الطبيعة كما يزدهر العقل، وتنمو الأشجار كما تنمو الأفكار. لكن هل كان “ربيعنا العربي” امتدادا لهذه الرؤية؟ أم أنه لم يكن سوى لحظة انفعال، سرعان ما ذبلت مثل زهرة لم تجد التربة المناسبة لتنمو؟ و هل بين الطبيعة والفكر: هل أصابنا التصحر العقلي؟
في الفصول الطبيعية، يسبق الربيع فصل الشتاء، حيث تتراكم البذور في الأرض، وتعد العقول لمراحل جديدة من التغيير، لكن في عالمنا العربي، لم يكن هناك تحضير فكري يسبق الانفجار، بل كانت العشوائية هي القاعدة. لم يكن هناك بناء فلسفي يوجه هذه الثورات، كما لم يكن هناك نقد حقيقي يضعها في إطارها الصحيح، والنتيجة كانت تحول الربيع إلى خريف طويل، حيث لا زرع ولا حصاد، بل أوراق متناثرة بلا جذور.
لم يكن غياب الوعي النقدي مجرد مصادفة، بل كان انعكاسا لعقود من التهميش الثقافي. قبل الثورات، كانت هناك أزمة في الفلسفة والفكر، لكنها تفاقمت بعدها، إذ لم يجد العقل العربي من يقوده وسط دوامة العاطفة والخطابات الانفعالية.
في زمن الجاحظ، كان للنقد مكان، وكانت المجادلات الفكرية تحظى باهتمام النخبة والعامة، أما اليوم، فقد تحولت ساحة النقد إلى مشهد من التهريج الرقمي، حيث تسود الشعبوية، ويعلو صوت “الترند” على صوت العقل. لم يعد لدينا مفكرون، بل مؤثرون، ولم يعد لدينا نقاش، بل استعراض، ولم يعد هناك وقت للتأمل، فالمنصات الرقمية لا تحتمل التريث، بل تريد كل شيء سريعا، مختصرا، يمكن استهلاكه كما يستهلك أي منتج آخر.
هل يمكن لعقل يعيش على “التغريدات” و”الفيديوهات القصيرة” أن يبني مشروعا فكريا عميقا؟ هل يمكن للوعي أن ينمو وسط هذا الضجيج؟ أم أننا دخلنا مرحلة التصحر الفكري، حيث لا مكان للنقد، ولا مجال للفلسفة؟
إذا كان الغزالي قد هاجم الفلاسفة، فإنه على الأقل كان يفكر ضمن إطار نقدي عميق، أما اليوم، فحتى الهجوم على الفكر بات سطحيا، أقرب إلى الضجيج الإلكتروني منه إلى التحليل الجاد. حلّت العاطفة محل العقل، وصارت الفكرة مجرد “هاشتاغ”، والمشروع السياسي مجرد “بوست”، وأصبح من يكتب مقالا عميقا يبدو غريبا في عصر التدوينات المختصرة.
الربيع الذي انتظرناه لم يكن ربيعا، والفكر النقدي الذي كنا نحتاجه لم يأت، فهل بقي لنا من الفصول إلا فصل الخراب؟ أم أن هناك فرصة لربيع جديد، ولكن هذه المرة في عقولنا، لا في شوارعنا؟
ربما لم يمت الربيع تماما، وربما لم يأت الخريف ليبقى للأبد، لكن المؤكد أن العقل العربي يحتاج إلى أكثر من مجرد ثورة، يحتاج إلى بناء طويل المدى، إلى تربة جديدة ينمو فيها الفكر، وإلى وقت كاف ليتعلم من أخطائه. السؤال الآن ليس متى يأتي الربيع، بل: هل نحن مستعدون لاستقباله إذا جاء؟
إذا كانت الفصول الطبيعية تتغير بانتظام، فإن الفصول الفكرية لا تتبع القواعد نفسها، فقد تطول مرحلة ما على حساب أخرى، وقد يختفي بعضها تماما.
الربيع العربي كان فرصة ليعود العقل العربي إلى الساحة، لكنه بدلا من ذلك، كشف عن غياب الأسس التي يمكن أن يقوم عليها أي مشروع مستقبلي.
لقد سقطت أوراق الفكر كما تسقط أوراق الشجر في الخريف، لكن الفرق أن الشجرة تعرف كيف تجدّد نفسها، أما العقل العربي، فلا يبدو أنه يمتلك بعدُ القدرة على استعادة حيويته. إننا لا نعيش في خريف طبيعي يعقبه ربيع جديد، بل في خريف دائم، لا يحمل إلا الرياح والغبار.
لكن، هل يمكن لهذا الخريف أن يكون مقدمة لربيع حقيقي؟ هل يمكن أن نرى ولادة جديدة للفكر النقدي وسط هذا الدمار؟ أم أننا دخلنا عصر “الصيف الجاف”، حيث لا ظلّ ولا ماء، حيث يحترق كل شيء تحت شمس العشوائية؟