
بقلم: زكية لعروسي

منذ الأزل، كانت العلاقة بين الروح والجسد محورا لصراع الإنسان مع ذاته. هذا الصراع لم يكن مجرد معضلة فردية، بل انعكس على الحضارات والمؤسسات الدينية التي سعت إلى تهذيب الطبيعة البشرية أو السيطرة عليها. الكنيسة الكاثوليكية، التي فرضت العزوبية على رجال الدين، قدمت نموذجا مثيرا لهذه الإشكالية. لكن لفهم هذه الظاهرة بعمق، يجب العودة إلى جذور التاريخ والبحث في السياقات التي أفرزتها، وربطها بمواقف رمزية مثل زواج المسيح وقرار العزوبية الذي اتخذه أحد الباباوات ليحدد مسار الكنيسة لعصور طويلة.
الكنيسة الكاثوليكية، بمفهومها للعزوبية الإلزامية، تقدم مثالا حيا على هذا الصراع. فهل المشكلة في القواعد التي تفرضها المؤسسة أم في الأفراد الذين يقبلونها عن وعي؟ أم أن المسؤولية مشتركة بينهما؟
في كتابه “مروج الذهب”، أشار المسعودي إلى أن الكائنات الأخرى تعيش بتناغم مع غرائزها الطبيعية، بينما يجد الإنسان نفسه في صراع دائم بين جسده وروحه. هذا الصراع تجسد في الأديان التي حاولت تنظيم العلاقة بين الطبيعتين، لكنها في بعض الأحيان خلقت تناقضات عميقة. الكنيسة الكاثوليكية، التي فرضت العزوبية على رجال الدين، مثلت نموذجا لهذه التناقضات، حيث اعتبرت أن القداسة لا تتحقق إلا بنفي الجسد.
لكن التاريخ يعلمنا أن هذا القرار لم يكن نابعا فقط من فهم روحي، بل من حسابات سياسية واقتصادية أيضا. عندما فرض البابا غريغوري السابع العزوبية الإلزامية في القرن الحادي عشر، كان الهدف حماية ممتلكات الكنيسة من الورثة وضمان ولاء رجال الدين للمؤسسة وحدها. ومع ذلك، هذا القرار أغفل حقيقة أن رجال الدين بشر، يحملون في داخلهم نزعات جسدية لا يمكن كبتها دون عواقب.
من ينضم إلى الكنيسة يعرف مسبقا ما ينتظره. العزوبية الإلزامية ليست قيدا خفيا؛ إنها شرط واضح ومعلن. لذلك، يتحمل رجال الدين جزءا من المسؤولية عندما يختارون هذا الطريق عن وعي. لكن لماذا يقدم البعض على هذا الاختيار رغم علمهم بالتحديات؟
يكون الانضمام للكنيسة بسبب الضغط االاجتماعي أحيانا نتيجة لتأثير عائلي أو بيئي. وأحيانا اخرى تجعل المثالية الروحية رجال الدين يعتقدون ان خدمة الله تتطلب تضحية كاملة بالجسد، وقد يظن البعض أنهم قادرون على التغلب على التحديات، ليكتشفوا لاحقًا أن الأمر أصعب مما توقعوا.
لكن مهما كان الدافع، فإن الوعي المسبق لا يعفي المؤسسة من مسؤوليتها عن فرض نظام يضع الإنسان في صراع مع طبيعته.
في تقرير فرنسي عام 2021، وُثقت آلاف الاعتداءات الجنسية التي ارتكبها رجال دين كاثوليك. هذه الحوادث ليست استثناءات فردية، بل انعكاس لنظام يضع رجال الدين في مواجهة غير عادلة مع حاجاتهم البشرية. كما أشار فرويد، فإن كبت الرغبات لا يؤدي إلى التخلص منها، بل يدفعها للتسلل بطرق غير صحية.
من جانب آخر، يُظهر التاريخ أن الحضارات التي فهمت طبيعة الإنسان وقدمت حلولا متوازنة حققت نجاحا أكبر في تحقيق الانسجام الروحي والجسدي. في الإسلام، مثلا، يُعتبر الزواج وسيلة لتحقيق التوازن، حيث اعتبر الإمام الغزالي أن الزواج ليس فقط حاجة جسدية، بل جزءا من التكامل الروحي للإنسان.
رجال الدين: يتحملون جزءا من المسؤولية لأنهم يدخلون الكنيسة بوعي لما ينتظرهم. إذا لم يكونوا مستعدين لهذا الالتزام، فإن القرار يعكس سوء تقدير أو تضليل ذاتي.
الكنيسة: تتحمل مسؤولية أكبر لأنها تفرض قواعد تتناقض مع طبيعة الإنسان. العزوبية الإلزامية ليست قاعدة أبدية في المسيحية؛ المسيح نفسه – وفق بعض التفسيرات التاريخية – قد يكون عاش حياة متوازنة تجمع بين الروح والجسد. لماذا إذًا تصر الكنيسة على نموذج مثالي يصعب تحقيقه؟ وهل يمكن التعلم من الطبيعة؟
الطبيعة تقدم درسًا واضحًا: الانسجام بين الغريزة والمسؤولية هو أساس البقاء. إذا كانت الكائنات الأخرى تعيش بتناغم مع غرائزها، فلماذا يصر الإنسان على خلق صراع دائم داخل نفسه؟ الدين الحقيقي ليس إنكارا للجسد، بل احتضانا متوازنا له.
المؤسسات الدينية التي تتجاهل هذا الواقع تحكم على نفسها بالدخول في دوامة من الفضائح والتناقضات. العزوبية الإلزامية ليست مقياسا للقداسة، بل قيدا قد يحول القداسة إلى عبء ثقيل.
إذا أرادت الكنيسة مواجهة هذا التحدي، فإن الخطوة الأولى هي إعادة النظر في مفهوم العزوبية. السماح لرجال الدين بالزواج لن يقلل من قدسيتهم، بل قد يعيد لهم التوازن المطلوب لأداء مهامهم الروحية.
لكن هذا التغيير يتطلب شجاعة واعترافا بأن بعض القواعد التاريخية لم تعد صالحة في عصرنا. رجال الدين بحاجة إلى الاعتراف بأن القداسة لا تتحقق عبر إنكار الذات، والكنيسة بحاجة إلى التواضع لمراجعة سياساتها.
الصراع بين الجسد والروح ليس حتميا، بل هو نتيجة اختيارات بشرية يمكن مراجعتها. الإنسان ليس قردًا يعيش فقط بغرائزه، لكنه أيضًا ليس ملاكًا يتجاهلها. هو كائن مركب يحتاج إلى التوازن ليعيش بسلام مع نفسه. إذا أرادت الكنيسة أن تستعيد دورها كمصدر للسلام الروحي، فعليها أن تتعلم من الطبيعة والحضارات الأخرى التي احتضنت الإنسان بكل تعقيداته. الدين الذي يجمع بين الروح والجسد هو الدين الذي يلبي احتياجات الإنسان ويحقق قداسة حقيقية، بعيدة عن التناقضات والانحرافات.
المسؤولية هنا مشتركة، والحل يبدأ عندما يتوقف الطرفان عن إنكار الحقيقة ويبدآن في بناء نظام يعترف بالإنسان كما هو، لا كما يجب أن يكون.


