«إيران والفقيه الريسوني… غزّة في ميزان السنّة والشيعة» (بقلم: عبد الحميد جماهري)

صدر للكاتب و الصحفي عبد الحميد جماهري مقال في موقع «العربي الجديد» بعنوان «إيران والفقيه الريسوني… غزّة في ميزان السنّة والشيعة». و نظرا لأهمية المقال، نعيد نشره بالكامل.

عبد الحميد جماهري

 

أعاد الفقيه المغربي أحمد الريسوني تنشيطَ التمييز المذهبي في التفاعل مع قضية فلسطين، في ضوء الحرب الوحشية والإبادة الجماعية التي يتعرّض لها الفلسطينيون في غزّة. وكتب الرئيس السابق للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أوديسةً يُستفادُ منها أنّ الشيعة، في إيران والعراق وسورية واليمن ولبنان، كانوا أكثرَ نصرةً لإخوانهم الفلسطينيين من إخوانهم السنّة في الحرب الجارية، فعمل بذلك على تحْيين نقطةٍ في جدول الأعمال العربي الإسلامي التاريخي، أحيا بها جدلاً انشطارياً (انقسامياً) ظلّ يُؤطّر 14 قرناً من التديّن الإسلامي.

وبغضّ النظر عن الظاهر من تدوينته التي صنَّفها في خانة “الشهادة” على واقع قائم، فإنّ استحضار ثنائية الشيعة والسنّة على قاعدة الصراع الدائر في فلسطين لا يخلو من انزياحٍ في تقدير المعادلة المحكومة بقوانين غير التي تحكّمت في معركة الجمل (عام 656) أو معركة صفّين (657). ذلك أنّه عوضاً عن قوانين الصراع وموازين القوّة الواجب إدراكها، والعلاقة بين السياسة والحرب والجغرافية السياسية في الشرق الأوسط، وفي العالم اليوم، عاد الفقيه إلى معايير فقهيَّةٍ ومذهبيةٍ في وضع موازين الأفضلية.

والحال أنّ مقاربة الوضع تستوجب مقاربةً أخرى، لعلّ أكثر ما تستهدفه أهمّيةً كشف نقاط الاستعجال والتفرّع التي اعترت موقفَ الفقيه الريسوني. أولاً، يُسقط الفقيه، بالرغم من قربه من حركات الإسلام السياسي، في بلاده المغرب أو في الرقعة الإسلامية العالمية، علاقةً بين الشيعة الإيرانية والإسلام السياسي (في شقّه الحركي) متجسّداً في حركة الإخوان المسلمين، تعود، في حقيقة الأمر، إلى ميلاد الجمهورية الإسلامية الإيرانية مع آية الله الخميني، كان فيها الإيرانيون يبحثون عن قرابة مع السنّة، الذين تأثّروا بهم، وفي هذا السياق، يحكي الباحث في العالم الإسلامي جيل كيبل في كتابه “نبي في وطنه”، “حصلت على موعد للقاء المرشد العام لمنظّمة الإخوان المسلمين عمر التلمساني في سنة 1979، لم يكن كثيرون يهتمّون بالإخوان وقتها، لكني التقيت في قاعة الانتظار دبلوماسياً شابّاً مستعرباً كان يعمل في سفارة الجمهورية الإيرانية الحديثة العهد (…)، وكان الخميني وأتباعه تأثّروا عميقاً جدّاً بهذه الحركة، وإن كنّا نجهل ذلك وقتها، ولا سيما بالمنظِّر الراديكالي سيّد قطب، بل تم إصدار طابعٍ بريديٍّ في سنة 1984 احتفالاً بذكرى (استشهاده)”. وهو في هذه الشهادة المباشرة يُؤكّد ما ذهبت إليه دراسات عديدة عن تزامن صدور كتاب الخميني “الحكومة الإسلامية”، وهو تجميع لمحاضراته كلّها التي أُلقيت بعد إعدام سيّد قطب، وبعد ترجمة أتباع الخميني بعض أعمال قطب إلى الفارسية.

ويستفاد أيضاً من متابعة دقيقة لأدبيات الثورة أنّ التأثير الكبير قائم، بل لعلّ الدراسات أقامت الدليل على هذا التأثير المتبادل، بين الإسلام السياسي، سنّياً وشيعيّاً، في مراحل تبلور الردّ العقائدي على أوضاع الدول الإسلامية، ومن دون أيّ نزعة في أدلجة نضال الشعب الفلسطيني، أو تغييبٍ مُغرِضٍ لأهمّية أولوية التحرّر الوطني على غيره في التاريخ الفلسطيني الحديث. يبدو أنّ حركة حماس معنية ربّما من زاوية الاعتماد السنّي الحركي بهذا الإرث، وبالتالي، ليس في الأمر تقدير مخالف عن الأصل ربّما، بل تجب مقاربته من زاوية أخرى غير ما هو في حكم الإعجاب المُتبادَل.

ثانياً، لا يمكن أن نفسّر بالثنائية العقائدية (حصرياً) ما هو في حكم مُتغيّرات الفعل الإقليمي والتوازنات الإقليمية، فليس خافياً أنّ إيران تريد أن تلعب دور “الناظم الإقليمي” في مواجهة السعودية وتركيا السنّيَّتَين، وهي لن تتنازلَ عن هذا “الحقّ” الجيوستراتيجي، لأنّها خطت خطوةً إيجابيةً مع أهل السنّة في فلسطين فقط، تتجاوز فيها نزاعاتها مع غيرهم. وهنا لا بدّ من تسجيل أمرين؛ إيران لا ترغب في دخول المُعترَك الحربي مباشرة، بل تدبّر كلّ دعوة مباشرة من إسرائيل إلى دخول الحرب بـ”الـصبر الاستراتيجي” المُعتاد، ولو مسّت الهجمات ترابها الدبلوماسي (القنصلية في سورية) أو التراب الوطني الداخلي (اغتيال إسماعيل هنيّة في طهران)، وعليه يمكن النظر إلى استعمالات أدواتها في العراق ولبنان واليمن وسورية استعمالاتٍ تكتيكيةً بأهداف اسراتيجية، فهي من دون التورّط مباشرةً (ولو دُفِعت له دفعاً) تسعى إلى تقوية موقعها مع الغرب بخصوص أجندات كبيرة في الساحة الدولية، ليس أقلّها سلاحها النووي وموقعها في التفاوض على مستقبل المنطقة ومكانتها فيها.

ونجزم أنّ العقلانية الاستراتيجية، والتخطيط، والتقدير، هذا كلّه هو ما يتحكّم في واقع ميزان القوّة الجيوسياسي؛ هناك بالفعل نوع من خروج الحرب عن حدودها الوطنية، نحو البحر الأحمر وجنوب لبنان وفي سورية والعراق، لكنّ المُتحكِّمات الوطنية هي التي تحسم المواقع، وهو ما ترعاه طهران بـ”الصبر الاستراتيجي”، الذي يُذكّرنا بالعقيدة السورية المتداولة أيّام حافظ الأسد؛ “التوازن الاستراتيجي” وخوض الحروب بالفصائل التابعة لدمشق، والتشكيك في أيّ تطوّر ممكن، بعيداً من تأثيرها ونفوذها.

ثالثاً، وبناء على ما سبق، ربّما يكون السؤال الذي يحسُن بنا طرحه هو السؤال العكسي: ما الذي تقدّمه فلسطين لإيران، في شرقٍ أوسطٍ مُعقَّدٍ، وفي واقع تواجه فيه إيران صعوبات جمّة وموازين القوّة فيه بالمعنى الكلاسيكي لم تتّضح بشكل كافٍ لمصلحتها. وبصيغة أخرى، بين فلسطين وإيران، من هي الورقة الرابحة بالنسبة إلى الأخرى؟

بالنسبة للفلسطيني الذي يقاتل من أجل حرّية بلاده ووحدة ترابه وتحرير مواطنيه، يبقى المعيار، الذي يحلّل به القوّة والضعف والربح والخسارة، معيارَ مَنْ يُسانده ومَنْ لا يُسانده في حرب التحرير من دون التمحيص كثيراً في النيّات الاستراتيجية لهذا الطرف أو ذاك (؟). وفي المقابل، لا أحد يعتقد أنّ إيران تتحرّك بحكم روح معركة صفّين أو معركة الجمل.

وعندما نُغيِّب التحليل الملموس للواقع الملموس، لا يكون بين أيدينا سوى الثورية الرومانسية، كما جرّبناها باسم اليسار، وكان التصنيف فيها على أساس الرجعية والتقدّمية والوفاء والخيانة، وباسم القومية، وكان التقسيم فيها (بخصوص إيران) بين العرب والفرس، وموقع كلّ منهما في أمّ المعارك، أو القادسية الجديدة.

والتفكير الديني، من زاوية الريسوني ومن على نهجه، عندما يفكّر في الحرب غير المتكافئة، يعكس في واقعنا الحالي أكبر رومانسية يمكن أن تصادفنا، وليس مبرّراً في أيّ حال جعل العقيدة الشكل الحديث في التقدير الجيوستراتيجي، مهما آمنَّا بأنّ العقيدة قد تكون قوّةً مادّيةً عندما يعتنقها أصحابها بصدق وحتمية. مهما كان الإيمان قويّاً، فإنّ الذي يتحكّم في التحليل الموضوعي هو التفكير اللاديني، الذي لا يؤمن بأيّ قوّة سوى القوّة، ولا بأيّ حقيقة سوى الحرّية، إلى طرف طاولة المفاوضات أو بين فعل موازين القوّة. لا مناص من الإقرار بأنّ الدين كان دوماً في قلب الحروب. ومن البديهي أن نبحث عنه في الحرب الحالية، لكنّ الذي يتأكّد كذلك هو الاستراتيجية، التي كانت تعني في العلوم العسكرية مدّةً طويلةً كيفية ربح الحرب، وقد صارت اليوم أوسع من الحرب، أي أنّ الاستراتيجية تشمل الحرب اليوم كما تشمل عناصر الدين أو العرق أو الموقع الجغرافي. والعرب وفلسطين بين إكراه الاستراتيجي وقوّة الردع السياسي، في عالم مرسوم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

رابعاً، يُسقط التفكير، الذي دعا إليه الفقيه الريسوني، واقعاً لا تقلّ خطورةُ انعكاسه على القضية المركزية الأمّ فلسطين عن انعكاس غياب الدعم أو التخلّي، وهو الوضع الذي توجد فيه الدول العربية في الشرق الأوسط، وربّما في غيره من المناطق، أي واقع التفكّك داخل الأوطان وترهّل الدول وغياب الأفق الاستراتيجي في مناطق وجود أذرع إيران كلّها، العسكرية والسياسية والعقائدية، ونقصد بها العراق وسورية ولبنان واليمن، وغداً ربّما ليبيا والساحل. زد على ذلك أنّ تفاقم الأوضاع في هاته الدول كان من الأسباب المركزية في تواري القضية المركزية للعالمين، العربي والإسلامي (فلسطين)، فاعتلت جدول الأعمال الدولي قضايا العراق وسورية واليمن على حساب القضية المركزية، التي لا حلّ من دونها، وما كان لها أن تتصدّر أحداث العالم هذه المدّة من دون فاجعة وحرب إبادة ومقاومة تراجيديّة فوق طاقة التحمّل البشري.

خامساً وأخيراً، لا يمكن أن ننظر إلى واقع محكوم بقوانين الاستعمار والامبريالية باندفاعاتنا المذهبية، مهما كانت صادقة، ولعلّ الجواب الذي يُشفي الغليل يُوجَد في قسطٍ وافرٍ من البشرية الأخرى، غيرنا، تلك التي بنت وجودها على مفاهيم العدل وقيم الحقّ في الحياة والحرّية والاستقلال، وهي توجد في جهات الأرض كلّها، بما فيها قطاعات واسعة من المسيحيين واليهود. ولعلّ الخوف الأكبر أن نذهب بعيداً بهذا التصنيف في تقدير المواقف من حرب غزّة إلى أنّ يتحوّل تصنيفاً يُجدّد حروبنا المذهبية، وينسينا المعركةَ الأساسية، معركةَ التحرير الوطنية، لأرض فلسطين، يريد شعب فلسطين أن يبني دولته الوطنية فوقها، بعاصمتها القدس الشريف.