بقلم: د. عبد الدين حمروش
- عبد السلام جسّوس: شهادة على “رقعة”
كان قد اتخذ قراره الأخير في محبسه، بعد أن انتهى إلى أن “لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق”. وحتى يشتهر موقفه بين الناس، وينأى به عن كل زيادة أو نقصان، وثّق ذلك بخط يده. وهذا بعض مما انتهى إليه كلامه الحاسم في نهاية الرّقعة، التي جعلها شاهدة بين وبين الناس عند ربِّه: ” وإني إن وافقتُ عليه طوعا أو كرها، فقد خنتُ الله ورسوله والشرع، وخفتُ من الخلود في النار”.
ماذا بقي بعد أن استُصفيَت أمواله، وبيعت دوره وأصوله وكتبه، وجميع ما هو ملك له ولأبنائه ونسائه؟ حتى كرامتُه أُهدِرت، وهو الشيخ الفقيه، بين أهله وقومه، حين طيف به في الأسواق، على وقع مثل هذه النداء القاسي، الذي كانت ترتفع به ألسنة جُند السلطان: “من يُفدي هذا الأسير؟”. وزاد على ذلك الناصري في “الاستقصا”، مُشخِّصا مشاهد من المأساة بقوله: “والناس ترمي بالدراهم والحلي وغير ذلك من النفائس أياما كثيرة، فيذهب الموكلون به بما يرمى عليه حيث ذهبوا بأمواله، وبقي على ذلك قريبا من سنة، فكان في ذلك محنة عظيمة له ولعامة المسلمين ولخاصتهم”.
بعد عفو من السلطان “مؤقت”، ستُكتب نهايته على يد القائد أبو علي الحسن بن عبد الخالق الرويسي. إن المحنة، التي وصفنا مشاهد من أطوارها، كان بطلها الفقيه الشهيد أبو محمد عبد السلام بن حمدون جسّوس. ومن جرأة الفقيه المعروفة، كما ورد وصفها في عبارة الناصري، أن لازمتها الصلابة في الدين والورع التام. إن المؤرخ، الذي انتُدب في أكثر من سلك وظيفي لدى المخزن، وقف حائرا أمام قضية “تعارضت فيها الأنقال، ودخلها التعصب، فلا يوقف منها على تحقيق”، حتى لتكاد عبارته السابقة تنتهي به إلى صفّ الفقيه. من شُهد له بالصلابة في الدين والورع التام، لا يمكن أن تتعارض فيه الآراء، وتتضارب المواقف. هذا هو الاستنتاج الطبيعي والمطنقي. أليس الأمر كذلك؟
هل جرى قتْل الفقيه بأمر من المولى إسماعيل، حتى كان تمام نهايته على يد قائده الرويسي؟ هل حصلت هذه المأساة، التي وصفها الكنسوسي في “جيشه العرمرم” بكونها من “القضايا الفظيعة في الإسلام”، بموافقة السلطان وأمره؟ في ما يُنسَب إلى الأخير، ومن قِبل مؤرخ الدولة أبي القاسم الزياني، أنه كانت منه عدة “أشياء” حصلت، شهد عليها كتابُه إلى القاضي والعلماء، منها حسب التدرّج في القوة: العتاب، التوبيخ، الذم، ثم عزل القاضي والشهود في الأخير. وإذ الفقيه جسوس واحد من هؤلاء، فقد نال ما ناله الآخرون، باستثناء من مال ميلا دراماتيكيا، في الأخير، إلى موقف المولى إسماعيل. غير أن الفقيه امتاز عنهم بأن صير إلى حبسه، ثم العفو عنه بعد ذلك، إلى أن وقع دمه على يد القائد المذكور. وعن مسؤوليته في مقتل الشهيد جسوس، سئل أحد حفدة المولى إسماعيل، وهو السلطان المولى سليمان، عن القضية في مجلسه، فأنكر ذلك قائلا: ما قتَله مولانا إسماعيل وإنما قتله أهل فاس”. وعن حجج السلطان، بالنسبة إلى ما انتهى إليه حاسما في القضية، عقّب الكنسوسي: “ولم يُمكنّا أن نسأله عن حقيقة ذلك”.
يبدو أن أحد خُدّام المولى سليمان، وهو صاحب “الجيش العرمرم”، بالطبع، كان بحاجة إلى معرفة ما بحوزة السلطان الحفيد من حجج وأدلة. غير أن مراعاة المقام السلطاني، تأدُّبا وتحفُّظا وخضوعا، حالت دون معرفة ما بين يدي سيّده من أسانيد وحجج. ولو طالب بأكثر مما قال المولى سليمان، لانكشف موقفه من أمر من دعا إلى إعدام الفقيه. هذا الموقف المتردد، الذي أتى على لسان أحد مؤرخي دولة السلطان الحفيد، سينضاف إلى موقف آخر مثيل في تردده (أو تشكُّكه)، لمؤرخ دولة السلطان المولى الحسن الأول. وتجاوزا لسؤال من دعا إلى القتل، وأمر بتنفيذه تنفيذا، جاءت عبارة الناصري “الله أعلم بحقيقته”، وذلك بعد أن وطّأ لها في سياق ما ذكرنا “حتى نفذ أمر الله فيما قضاه وقدره في أزله، بعضها ظاهر وبعضها خفي”.
من كلّ ما ذكرنا، نستنتج أن إعدام الفقيه جسوس كان خاطئا، بل ظالما ظلما بيِّنا. والمسألة الوحيدة، التي وقف عندها كل من تناول القضية، محصورة في من كان الآمر بالقتل. إذاً، لماذا جرى هذا القتل الذي وقع على الفقيه، بعد أن أعجز المؤرخين معرفةُ من أمر به (أو التفوا على المعرفة به طلبا للسلامة، وتوقِّيا من عاقبة الخوض فيه)؟ بالنسبة إلى الجواب، لا يختلف اثنان في أن قضية “تمليك العبيد” كانت السبب في امتحان الفقيه، إضافة إلى امتحان علماء عصره وقُضاته (من فاس بالتحديد). ومن المعروف الثابت تاريخيا، أن المولى إسماعيل، وهو بشأن توطيد أسس دولته عسكريا، ارتأى أن يكون الطريق إلى ذلك تملُّك “السود”، وبالتالي استكتابهم ضمن جنده، سواء أكانوا مملوكين، أم حرطانيين، أم أحرارا.
وبالعودة إلى الرقعة، التي خطَّها الفقيه جسوس، قبل إعدامه بوقت وجيز، وجدنا أن مضمونها بتّ في عدم الأحقية بتملّك العبيد. واستدراكا لما فات، ولم نسجله في الموضع السابق، نأتي إلى بقية ما حملته ” الرقعة” المخطوطة بيد الفقيه: “الحمد لله يشهد الواضع اسمه عقِبه على نفسه ويشهد الله تعالى وملائكته وجميع خلْقه أني ما امتنعت من الموافقة على تمليك من ملك من العبيد إلا لأني لم أجد له وجها ولا مسلكا ولا رُخصة في الشرع”.
- الحسن اليوسي: إنما هي عصا تسيار
قال الفقيه، أبو عبد الله محمد بن عبد العزيز محبوبة السلاوي، بناء على ما وقف عليه الناصري بخط الشيخ: “إن امتحان الفقيه أبي محمد جسوس كان من أجل امتناعه من الموافقة على ديوان الحراطين الذي اخترعه عليليش المراكشي للسلطان الجليل المولى إسماعيل رحمه الله حسبما هو مشهور، فهجاه بعض السفهاء وهجا فاسا من أجله، وحقد عليه السلطان”. هل بلغ الحقد، بعد أن استُصفيت أموال الفقيه، وعُذّب، وسُجن، درجة الإعدام؟
بدأت قصة العبيد، التي بها كانت نكبة الفقيه، حين أطلع الكاتب أبو حفص عمر بن قاسم المراكشي (الملقب بـ “عليليش”)، المولى إسماعيل على دفتر، فيه قُيِّدت أسماء العبيد الذين كانوا جزءا من عسكر المنصور السعدي. ولأن تأسيس عسكر “نظامي” كان يشغل بال السلطان، فقد وقعت “فكرة” الدفتر من السلطان موقع من كان يبحث عن “شيء”، فعثر عليه فجأة. من دون تأجيل أو انتظار، طُلب من عليليش، الذي كان والده كاتبا للمنصور، جمْع العبيد عن بكرة أبيهم. ولم يرتح السلطان إلا وقد توفّر له من العبيد، في المجموع، بعد أن سُيِّر الكتّابُ إلى مختلف الأمصار، تنقيبا عنهم وتعقُّبا لهم، مائة ألف وخمسون ألفا. سُمُّوا “عبيد البخاري” في ما بعد، نظرا لقسمهم على “صحيح البخاري”، في ما يعني الالتزام، بمن فيهم السلطان نفسه، بـ “سُنّة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرعه المجموع في هذا الكتاب”.
إن السؤال الفقهي، الذي اتفق الشيوخ على الجواب عنه في البداية، ثم تخلى عدد كبير منهم بعد ذلك، إيثارا للسلامة في البدن والولد والمال، هو: هل من حق السلطان تملُّك هؤلاء السود الأحرار؟ في رسالة الفقيه الحسن اليوسي إلى المولى إسماعيل الجواب، وهذا بعض مما جاء منه: “فليعلم سيدنا أن الأرض وما فيها ملك لله تعالى لا شريك له، والناس عبيد لله سبحانه وإماء له، وسيدنا واحد من العبيد وقد ملكه الله عبيده ابتلاء وامتحانا، فإن قام عليهم بالعدل والرحمة والإنصاف والإصلاح فهو خليفة الله في أرضه وظل الله على عبيده”. فهل كان اليوسي يقصد، من خلال تذكير السلطان بكونه من عبيد الله، التلميح إلى “القضية”، التي كانت وراء محنة “الجسّوسيين”؟
وفي سياق نفي إرادة تملُّك الأحرار، من قِبَل المولى إسماعيل، يحتجّ الناصري باليوسي، الذي لم يسكت عن تذكير السلطان بثلاثة حقوق (جمع المال من حق وتفريقه في حق، إقامة الجهاد لإعلاء كلمة الله، الانتصاف للظالم من المظلوم)، فكيف يسكت عن ادعاء تملّك الأحرار؟ فاليوسي، الذي عُرف عنه جرأتُه في قول الحق، والذي لم يتردد في إنكار ما هو أقلّ، كيف يكون بوسعه الإحجام عن إنكار ما هو أعظم؟. الاحتجاج بفقيه آيت يوسى وعالمها الأجلّ، إنما جاء في سياق نفي رغبة السلطان في تملُّك الأحرار (من السود). والاحتجاج بشخص اليوسي، الواقف على الحق وغير المماري فيه، يرد بموازاة مع نوعين آخرين من الاحتجاج:
– الأول واقعي، بحكم تقسيم “السود”، المستخدمين ضمن جند السلطان، إلى ثلاث طوائف: أ- خالص الرٍّقيّة الذي اشتُري بالثمن (عشرة مثاقيل للعبد والأمة) ب- خالص الحرية ج- واسطة بينهما. وفي ما يتعلق بالتملك، فالطائفة الأولى هي المعنية به، بحكم شرائها من أصحابها بالمال. وليست في ذلك أي شائبة بخصوص ادعاء التملُّك (بحسب الناصري وغيره). أما الطائفتان الأخريان، فاستخدام أفرادهما في الجند السلطاني، بصفتهما أحرارا في المجمل، نابع من حاجة الدولة إليهم في تحرير المدن الساحلية، ودفع الأعداء الكفار المتربصين، واستتباب الأمن. إذاً، أُريدَ للنقاش ان ينصبّ على الطائفتين الأخيرتين، في النقطة المُتعلقة بإجبارهما على الجندية، بما يعني إفراغ قضية “التملك” من أي أساس شرعي؛
– الثاني شرعي، مبنيّ على استفتاء علماء المشرق والمغرب في الموضوع. وبالطبع، فقد تلقى السلطان أجوبة عن “سؤالاته”، التي كانت مُتضمِّنة للجواز بخطوطهم. وبذلك، يكون قد انتفى عن السلطان ادِّعاء تملّك الأحرار (من السود بالطبع). القضية كلها، من وجهة النظر هاته، محلولة. إذاً، أين يكمن المشكل؟ وبالتالي، لماذا رفض فقهاء فاس وعلماؤها مجاراة السلطان، في مسألة الموافقة على تمليك العبيد المثبتين في الديوان؟ ولماذا كانت محنة الفقيه الشيخ أبي محمد عبد السلام بن حمدون جسّوس أصلا؟ ألم يكونوا جميعا من المُستفتين، الذين كتبوا إلى السلطان بجواز التمليك؟ وبالتالي إذا لم يكونوا كذلك، فأين هو الإجماع المُتحدَّث عنه؟
في خُطّة الناصري، ومن تقدّمَه، يعني ابتعاد اليوسي عن قضية “التمليك” أن لا وجود فعلي لها. والإشارة إلى عدم خوضه فيها، يسير باتجاه نزع أية أهمية عنها، على الأقلّ. كأن ليست، هناك، قضية، عنوانها “تمليك”، على الرغم مما قيل عن كونها “من القضايا الفظيعة في الإسلام”. وهذا تناقض كبير بالنسبة إلى من سعوا إلى تحجيم موضوع التمليك. هل سكتت رسالة اليوسي إلى المولى إسماعيل عن القضية فعلا؟ ألا يعتبر ما في صدر رسالته، بعد الحمد والصلاة والدعاء للسلطان، تعريض بالأخير من خلال القول:” فليعلم سيدنا أن الأرض وما فيها ملك لله تعالى لا شريك له، والناس عبيد لله سبحانه وإماء له، وسيدنا واحد من العبيد”؟ يمكن حمل لفظ العبيد على الوجه العام. ومع ذلك، أو ليست هناك طرق للربط بين القضيتين: التملك من جهة، وما تضمنته الرسالة من جهة ثانية؟
القضيتان ترتبطان في نقطة معينة، وهي أن تنظيم العبيد، من الناحية العسكرية، يُغني عن الحاجة إلى القبائل، التي كثيرا ما كانت تتلكّأ في الاستجابة إلى الأوامر السلطانية. زد على ذلك أيضا، أن توفّر هذه القبائل على الخيل والسلاح، كان من شأنه أساسا “قطع الطرقات، ونهب الأموال، وخلع اليد من الطاعة”. ولذلك، فإن سلب القبائل مصادر قوتها أفضل من بقائها في حوزتها. أما الاحتجاج بأن في ذلك إضعافا لقبائل المسلمين في “مقابلة العدو الكافر”، فيأتي الرد عليه مباشرا من الناصري ” ولا يتوهم عاقل أن أهل فازاز ومن في معناهم يتخذون الخيل والسلاح للجهاد يوما”.
كان هناك تسويغ سياسي لإنشاء جيش البخاري من قبل المولى إسماعيل. ذلك أن حاجة السلطة إلى جيش نظامي، بدل الاعتماد الكلي على القبائل “المتهاونة”، كانت من مُسوغات تنظيم العبيد في الجندية. وإن كان الكنسوسي يعترف بإضعاف السلطان للقبائل، إلا أنه يدرج ذلك ضمن أخف الضررين (أو أدنى المفسدتين)، على أساس أن المولى إسماعيل “لما أعد ذلك العسكر القوي الشديد، قام عن المسلمين بالواجب، وكفاهم كل مؤونة، وأراحهم من كُلف الخيل والسلاح، مع أن الفساد الذي يظهر منهم عند ملك الخيل والسلاح أعظم”.
يمكن ملاحظة الاختلاف، في قراءة رسالة اليوسي، بين المؤرخيْن الكنسوسي والناصري. وإذ برر الأول عمل السلطان الموصوف، مُصرِّحا بخفاء مُسوغاته عن اليوسي، ذهب الثاني إلى أن فقيه آيت يوسى “ما تكلّم مع السلطان في أمر أولئك القبائل ومن في معناهم” (أي لم يذكرهم له). ومن ثم، فإن كلامه، في رسالته الشهيرة، انصب على قضايا أخرى، هي: جباية المال، الجهاد والانتصاف من الظالم. غير أن المؤرخين، وإن اختلفت قراءتهما لواقعة إضعاف القبائل، إلا أنهما سارا باتجاه إيجاد الأعذار للسلطان في النهاية، وبالتالي إَضعاف قوة المعارضين والمناوئين، عبر استبعاد اليوسي مِن موضوع التمليك برمته.
وحتى في نطاق ما تم ّالاختلاف فيه، نجد أن الترجيح يميل لصالح الكنسوسي، بحكم أنه الأقرب زمنا إلى عصر المولى إسماعيل (الكنسوسي عاصر المولى سليمان كما مرّ بنا في إشارة سابقة)، من جهة، واعتماد الناصري على سلفه في كثير من المعطيات، إلى درجة نُلفي معها الثاني يلجأ إلى استنساخ الأول. إضافة إلى ذلك، فإن السياسة الجبائية للسلطان المذكور، التي أضرّت بالقبائل في الخيل والسلاح، تلتقي مع الرغبة في تأسيس جيش عسكري نظامي، مستقل عن تدخّل القبائل وسلطتها. ومن الطبيعي، والحال على هذا النحو، أن تلتقي القضيتان، معاً، عند مدار نقطة واحدة مشتركة.
ومع ذلك، فإن رسالة اليوسي كانت قوية الأثر، بحيث ما كانت لتقلّ شدة على السلطان من “رقعة” جسوس القصيرة، أو أجوبة فقهاء وعلماء آخرين في الموضوع ذاته، مثل محمد بن عبد القادر الفاسي أو أبي حامد بردلة. فلماذا لم يتعرض اليوسي إلى ما تعرض إليه الفقيه جسوس من أذى جسدي (بعد أن نال الأخير توبيخ السلطان والاتهام بالتقصير، أسوة بباقي العلماء الرافضين للتمليك)؟ هل تمليك العبيد للمخزن أعظم خطورة على السلطان من قضايا أخرى، مثل الجباية والعدل والجهاد؟ ومن منطلق كون الأولى أساس الحال بالنسبة إلى الثانية؟
كلما ذُكرت الرسالة الصغرى (أو براءة اليوسي)، لدى عدد من الباحثين، إلا رُبطت بقضية تمليك الحراطين. هذا، على الرغم من أن الرسالة لم تفرغ مساحتها إلا لقضايا مختلفة، مما ذكرنا عن العدل والجهاد والجباية، باستثناء ما تمّ تذكير السلطان به من أن الجميع عبيد لله (بمن فيهم هذا السلطان نفسه). فهل كان لعالم آيت يوسي أن يسلم من ردود فعل المولى إسماعيل الانتقامية، وإن لم تبلغ مبلغ ما حصل لآل جسوس، وفي طليعتهم شيخهم عبد السلام؟ في الواقع، إن حياة اليوسي، التي انقضى شطرها الأول في تحصيل العلم، والتربّي بالسلوك العرفاني، فإن شطرها الثاني انقضى في الترحال من أرض إلى أخرى. وإن كان هذا الترحال لجوءا اختياريا منه، إلا أن بعضه حصل بأوامر من السلطان، إما تأديبا له وعقابا، أوتوقيّا من ردود أفعاله على أحداث مخزنية جارية. وقد عبّر عن كثرة ترحاله، إشفاقا عليه وعلى حاله الصائر، صديقُه وصهرُه أحمد بن عبد القادر التستاوتي، بهذا الشعر:
سلام على خلّ إذا ما أتى إلى /// مكان ينادى بالرحيل فيرحــــــــلُ
وليس له ذنب سوى أنـــه إذا /// تحدّث عن فضل به الفضل يحملُ
وليس يخفى ما في هذين البيتين، بما حملاهما من معاني الغربة والتشرد، من إحالة إلى أبيات للشاعر الخارجي المذهب، عمران بن حطان، في وقته. ومنها:
يا روْحُ كم من أخي مثوى نزلت به /// قد ظن ظنك من لخم وغســــــــــــــان
حتى إذا خفته فارقت منزلــــــــــــه /// من بعد ما قيل عمران بن حطــــــــان
قد كنت ضيفك حولا لا تروعنــــي /// فيه الطوارق من إنس ومن جـــــــــان
حتى أردتَ بي العظمى فأوحشنــي /// ما أوحش الناس من خوف ابن مروان
وفي “مَعْلمة المغرب”، ترجمة وافية تضمنت سياسة الإبعاد، التي لجأ إليها المولى إسماعيل بخصوص ذوي الجراءة عليه من العلماء، ومنهم اليوسي. فحتى عزلته في زاوية “خلفون”، التي أسسها على وادي أم الربيع، وتفرغه لتدريس العلم وتلقين الورد، لم يطل استقراره بها “ذلك لأن العزلة التي اختارها قد أثارت حفيظة السلطان”. وقد بلغ رد فعل الأخير قوة، حين نفاه سنة 1684 إلى الزاوية الدلائية الخرِبة شتاء “فأقام هنالك منفيا ثلاث سنين، وقد شاهد معاناة القبائل، ومنها قبيلته من التقتيل والنهب والتشريد من لدن جيش السلطان”. ومن سياسة هذا الأخير معه، أنه صيَّره لقضاء شعيرة الحج، ضمن الموكب الرسمي، في الوقت الذي كان المخزن يُجري “حركة” ضد قبائل فازاز “فهل سعى بذلك إلى صرفه عما كان يجري في تلك الجهات؟” (المَعلمة).
توفي اليوسي، بعد العودة من الحج، بحوالي الشهرين، ليلة الاثنين 23 من ذي الحجة 1102/ 1691. ومن الجدير تسجيل ملاحظة الأستاذة فاطمة خليل المثيرة، التي ذهبت فيها إلى أن أبا علي الحسن، الذي “خُص عن أهل عصره بالصدع بين يدي خليفة الوقت”، حسب شهادة محمد بن الطيب القادري، انتهى أمره مقتولا. وقد انبنى افتراض الأستاذة على طرة، وُجدت بهامش مخطوطة “نشر المثاني”. وإذا صح ما ذهبت إليه، بسبب تعدد خصومه، فقد وقعت المأساة على الرجل بطريقين: النفي ثم القتل.
- محمد بن ناصر: هُدنة على دخن
عاصر حُكمَ المولى إسماعيل شيوخٌ كبار، من بيهم: أبو علي الحسن اليوسي، محمد بناصر الدرعي، محمد بن أبي بكر الدلائي، وعبد القادر الفاسي، أبو حامد بردلة، وعبد السلام جسوس، أبو عبد الله المجاصي، وغيرهم كثير. ومن المثير للانتباه في اجتماع هؤلاء، خلال القرن الحادي عشر الهجري، تحت حكم سلطان قلب أُسُس المملكة، ألا وهو المولى إسماعيل. وكلما ازداد السلطان سطوة، في تدبير شؤون سلطنته، إلا ازدادوا مناوءة له ومُعارضة، وإن لم يكن ذلك ليشذ عن جناحي الاعتراف والولاء، وليتعدّى إطاري النصح والإرشاد.
ومع الإقرار بفضل الشيوخ الكبار المذكورين، إلا أن هناك رواية أُثِرت عن أبي العباس أحمد بن خالد الناصري، تحصرهم في ثلاثة بالقول: “لولا ثلاثة لانقطع العلم من المغرب في القرن الحاي عشر، لكثرة الفتن التي ظهرت فيه، وهم: سيدي محمد بن ناصر في درعة، وسيدي محمد بن أبي بكر الدلائي في الدلاء، وسيدي عبد القادر الفاسي”. غير أن علَم درعة وصوفيها سيتميز عن معظمهم بوجوده على رأس زاوية، من أكبر الزوايا في الجنوب آنئذ، بل وأكبرها في المغرب كله. ولذلك، كلما ذُكر اليوسي، الذي أتينا على بعض من مساره، إلا ذُكر تتلمذُه على الشيخ محمد بن ناصر، وانتسابُه إلى الزاوية الناصرية من جهة ثانية (ذات الخلفية الشاذلية).
نظر اليوسي إلى شيخه، بالمقارنة مع جميع شيوخه، بعين التبجيل والاعتبار، قائلا عنه في فهرسته” “ومنهم أستاذنا الإمام، وقدوتنا الهمام، علم الأعلام، وشيخ مشايخ الإسلام، قدوة الطريقة، الجامع بين الشريعة والحقيقة، سدي أبو عبد الله محمد بن ناصر الدرعي”. وعن هذه العلاقة الوثيقة، قال الإفراني من جهته: ” وأما علم الباطن فعمدته فيه هو الإمام أبو عبد الله بن ناصر الدرعي، هو طبيب عِلّته ومُبرِّد غُلّته”. ومما اشتهر به اليوسي، أيضا، تعظيما لقدر استاذه، نظمه لقصيدته “الدالية”، الطويلة بما ضمته من أبيات، وبما احتوته من دلالات. والقصيدة نُظمت في الدرعي، بعد عودته من أداء مناسك الحج. وهذان بيتان منها:
عرِّج بمُنعرج الهضاب الـــــوُرّد /// بين اللّصاب وبين ذات الأرمد
وأجز من الجزع الذي بحضيضه /// أجداث أصداء العشير الهُمَّـــد
وفي النظر العام إلى شيخ درعة، لا نجد اختلافا عن اليوسي، بالنسبة إلى كل من ترجم للناصري، أو تعرّض لسيرته وعلمه وسلوكه. وممن بادروا إلى ذلك، أبو سالم العياشي الذي أدلى بشهادة قوية عنه ” شيخنا الحافظ الجامع، الزاهد الخاشع، ألين أهل زمانه عطفا، وأشدهم لله خوفا، الموفق في السكون والحركة، المقرونة أحواله بالخير والبركة”.
كان اليوسي يسير على منهج أستاذه في العلم والسلوك. غير أن الأستاذ الناصري سيرتبط اسمه بالزاوية، مُحتلا الترتيب الرابع ممن تولّوا أمْرها، بعد وفاة وليِّها الشيخ أحمد بن إبراهيم، لتتحول من “أنصارية” (نسبة إلى المؤسس الأول أبي حفص عمر الأنصاري) إلى “ناصرية”. وبذلك، باتت الزاوية، حينها، قائمة على التوارث بين أبناء الشيخ وحفدته (وكان هذا التوارث، في ما بعد، إيذانا بضعفها وهوانها). أعتقد أن على هذا الأساس، اقترن جهد الناصري الأكبر، أي في خدمة إشعاع الزاوية في العلم والتربية والسلوك، بعد أن كانت مهمتها الأولى تأمين طرف القوافل المتجهة إلى السودان، أو العائدة منه. ولذلك، ما كان من المستبعد أن تُقرأ مواقف ابن ناصر، من قِبَل السلاطين العلويين (محمد بن الشريف، المولى الرشيد ومن بعدهما المولى إسماعيل)، على أنها مواقف للزاوية.
وفي اصطدام محمد بن ناصر، ومن بعده ابنه أحمد، مع السلاطين، أكثر من حكاية. خلال حكم السلطان المولى الرشيد، كان عزم الأخير على اجتياح الزاوية، بعد امتناع الشيخ ابن ناصر عن الدعاء للسلطان في خطب الجمعة، لولا حكمة السلطان (أو وفاته بالنسبة إلى رواية أخرى) التي آلت إلى التراجع عن المبادرة إلى ذلك، قائلا: “هذا كلام لا يصدر من قلوب فارغة، ولا م عقول من معرفة الله خالية، ولا حاجة لنا بكلامه، إن شاء خطب بنا، وإن شاء لم يخطب، ما لنا فيه ولا علينا”. وللإشارة، فإن تراجع السلطان، عن اقتحام معقل الزاوية بتامكروت، جاء بعد الرسالة الجوابية التي اختصرها الشيخ في قوله: “فاقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا”.
وعلى الرغم من قوة رسالتي اليوسي (الكبرى والصغرى)، إلا أنه لم يؤثر عن أستاذه ابن ناصر الدرعي رسائل من حجمها، باستثناء ما أمكننا الاطلاع عليه عبر مقالات/ دراسات متفرقة، من قبيل التي حرر الأستاذ عبد العزيز خمليش، ومنها الرسالة القصيرة التي أرسل إلى المولى الرشيد: “وأوصيك إذا أمكنك الله في أرضه وولاّك أمر عباده، أن توقظ قلبك لنشر العدل في الأرض وإحياء ما اندرس من سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومحو كل بدعة ضلالة أحدثها جور الأمراء قبلك”. ويبدو أنها رسالة قوية، في دلالتها ورمزيتها، إلى السلطان الرشيد. وتوجد رسالة أخرى منه نفسُه إلى المولى إسماعيل، وردت على النحو التالي: “ونوصيك بتقوى الله والقيام بالقسط وعظيم ما عظّم الله وإقامة حدود الله”.
في ما اتصل بمواقف الشيخيْن محمد وأحمد الناصريين (الوالد والابن)، بإزاء العلاقة الأولية المرتبكة مع السلاطين، نلاحظ وجود قراءتين: تذهب الواحدة إلى أن الحض على الإحجام عن اختلاق البدع، ومن ثم التشجيع على اتباعها وتكريسها، كان جميع ذلك يندرج تحت عنوان: “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. وفي هذا لإطار، كان رفض الناصريين الأولين الدعوة للسلاطين في المساجد. أما القراءة الثانية، فتذهب إلى أن مناوءة الزاوية للسلاطين الثلاثة الأوائل، إنما جاء تحت “شبهة” الاصطفاف مع هذا الأمير أو ذاك، مثلما كان يُعتقد في الميل السياسي إلى الأمير محمد العالم ضد والده المولى إسماعيل، أو الانحياز إلى مساندة الزاوية السملالية ضد المخزن (مثلا).
أُثِر عن أحمد بن يعقوب الولالي، بخصوص الشيخ محمد بن ناصر، قولُـــه: ” وكان شديد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يخاف في الله لومة لائم، ولا يُرى واقفا بباب ملك من الملوك، ويتولى صلاة الجمعة بنفسه، ولم يخطب لملك قط”. كما أُثِرت رواية، عن المؤرخ أحمد بن خالد الناصري، من شأنها أن تكشف عن بعض من أوجه التوجس الحاصل للسلاطين إزاء الناصريين الأوائل. والموضوع يتصلُ بما حدث للشيخ أحمد بن ناصر، السائر على نهج والده وسَمته، مع السلطان المولى إسماعيل، كما ورد في “الاستقصا” أخذا من طريق سيدي محمد بن إبراهيم المجاصي (بتصرف): ” كان السلطان المولى إسماعيل بن الشريف رحمه الله قد استدعى الشيخ سيدي أحمد بن ناصر، وكان به حنق عظيم عليه، وعزم إذا وصل إليه أن يفعل به مكروها لا تُدرى حقيقته”. إلا أن كرامات الشيخ وبركاته، كما تمّ الإلماح إليها في الكتاب، عبر الرواية والنقل، ستحول دون التعرض إلى أي أذى من المولى إسماعيل “فإن السلطان جاء إليه بنفسه (…) وتلقّاه بالقبول والتعظيم والتبجيل والتكريم وصافحه بيده، وجلس معه في داخل القبة ساعة”.
على الرغم من النهاية “السعيدة”، التي انتهى إليها اللقاء، إلا أن الاحتمالات الأولية كانت تسير باتجاه واحد: اتّجاه السلطان إلى إيقاع المكروه بالشيخ. وسواء أكان إحجام المولى إسماعيل عن ذلك، بدافع ما جرى بينهما داخل القبّة (من تفاهم ؟!!)، أم بفعل تأثير “كرامات” الشيخ التي كان يعتقد بها مُريدوه، والتي اعتبروها بمثابة “حصن” له، فإن هناك صراعا كان آخذا بالتبلور والبروز، ومنذ أيلولة السلطة إلى السعديين، بين: هيمنة “الأشراف” على الحكم المركزي من ناحية، وتململ الزوايا نحو التطلُّع إليه من ناحية أخرى.
وفي الأخير، يمكن تسجيل إحدى المفارقات، التي تبدو لنا ظاهرة للعيان، والتي طبعت مرحلة المولى إسماعيل بأكملها. فبقدر ما كان المخزن العلوي قويا آنذاك، يسير باتجاه بناء دولة نظامية، مُستقلة عن التأثير “السلبي” للقبائل (على الأقل في المستوى العسكري)، كانت الحركة العلمية الأدبية في أوجها، على أيدي علماء كبار لم يألوا جهدا في رفد تلك الحركة بمُصنّفات مُهمة (مثل مُصنّفات اليوسي الذي وُصف بكونه “غزالي” زمنه) من جهة، وإعلاء صوت الاحتجاج في وجه السلطان، بين الفينة والأخرى، من جهة ثانية. ولذلك، كانت سياسات السلطان، إزاء العلماء، تأخذ أساليب مُختلفة.