تعتبر ظاهرة التصوف في الإسلام الجانب الرئيسي الذي حافظ على الموسيقى عبر العصور بل عمل على اتخاذها أداة أساسية في مناهج العمل به إلا أنه يجب أن نعرف التصوف ونخوض فيه حتى نعرف سر العلاقة بينه وبين الفنون وما أهمية الموسيقى موضوع البحث، فالتصوف والموسيقى كلاهما من عالم الوجدان فالشيء الذي يصعب تصوره يصعب الحكم عليه، من هنا تأتي صعوبة التعريف وتحديد معالمها لكن استحالة الحكم عليه والتعريف لا تنفي عدم الخوض فيهما فالقول بدور كل منهما في تحقيق الغاية الأسمى وهي الوصول إلى معرفة الله.
وعند محاولة الخوض في مفهوم التصوف لابد أن نبحث في أصل التسمية هذا ما تطرق له العديد من الخائضين فمنهم من أرجع ذلك إلى اللباس الصوفي وما ينتج عنه من تقشف وهنالك من سرد العديد من التعاريف الناتجة عن تجارب التصوف فالدكتور عبد الرحمان بدوي مثلا يورد في كتابه” تاريخ التصوف الإسلامي” خمسة وعشرين تعريفا للتصوف اقتبسها من أقوال الصوفية أنفسهم
ومنها ما قاله الجنيد: أن تكون مع الله بلا علاقة، وهذه المعية مع نفي العلاقة تؤكد رفض مفاهيم عديدة كالوساطة والمسافة والشعائرية في الاتصال بالإله وهي مفاهيم أساسية في الأديان السماوية وقال أيضا: التصوف ذكر مع اجتماع ووجد مع استعمال وعمل مع إتباع، وقال أيضا الشبلي: الصوفي منقطع عن الخلق متصل بالحق، وعند محاولة تحديد حقيقة التصوف أقر بدوي بوجود أساسين لجوهر التصوف هما :
أولا : التجربة الباطنية المباشرة للاتصال بين العبد والرب.
ثانيا : إمكان الاتحاد بين الصوفي وبين الله
تجدر الإشارة أن هذه المحاولات للاتحاد بالخالق لم تظهر مع التصوف الإسلامي بل عرفها أيضا التصوف اليوناني، حيث كان لكل مدينة إله خاص بها تجمعهم بين العابدين عواطف ثلاث: عرفان الجميل – المصلحة الخاصة – وخوف العقاب – كل ذلك يمر عبر الموسيقى وما يجاورها من غناء ورقص وما تحدثه من نشوة دينية من خلال طقوس العبادة، وكما سبق الذكر فمنشأ العلم الموسيقي عند اليونان فيتاغورس، الذي كان هو نفسه مؤلف زفة دينية / فلسفية ذات تعاليم سرية وكان تلاميذه أشد غلوا منه في التصوف، وكما تشير أدلة قوية على كونه سافر إلى مصر القديمة وعاد منها إلى اليونان ناقلا إليها بعض النظريات البسيطة في علم الصوت؛ ومنها أن الموسيقى البشرية الفانية إن هي إلا أنموذج أرضي للانسجام العلوي بين الأفلاك، وذهب الفيتاغوريون المتأخرون إلى أن السماوات تنبعث منها الموسيقى بالفعل وبذلك يقولون بالأصل السماوي للموسيقى مما أكده آخرون.
فقد جاء عن أرسطو أنه في الساعات الأخيرة من عمره حلم حلما سجله أفلاطون في محاورة فيدون، رأى فيه أرسطو أن الوحي أتاه ليأمره بتأليف الموسيقى ويعني هذا الحلم ضمنا أن للموسيقى قدرة تفوق العلم على تقريبنا من الحقيقة النهائية ومن أقواله أيضا “بعض الناس يغيبون في حالة تشنج ديني فإذا استخدم هؤلاء من الألحان المقدسة ما يثير في النفوس حالة تشنج ديني فإنهم يبرأون”.
ومن خلال الأدب اليوناني تأكد أن للموسيقى دورا مهما في التشافي داخل المعابد، حيث كانت تقام جلسات بموسيقى صاخبة تجعل الراقصين عليها يغمى عليهم وحيث يفيقون يكونون قد شفوا بشكل كامل أو نسبي. إن الموسيقى والألحان الصوفية يمكنهما فهم الانفعالات الغريزية في الإنسان وتنقية الروح …
وذهب الدكتور زكرياء ابراهيم إلى كون الفن قوة روحية خلاقة توجد من العدم لا مادية كالموسيقى والشعر وموجودات مرتبة كالنقوش والرسوم. أما هنري برجسون فرفع الفن إلى القمة فهو في فلسفته أن عين ميتافيزيقية والفنان قادران عبر الإدراك المباشر على النفاذ إلى باطن الحياة، وعين الفنان تملك مقدرة صوفية هائلة على الاتحاد مع موضوعها وفي فلسفة شوبنهور يصل الأمر إلى نوع من المطابقة بين التصوف والفنان. وتمثل الموسيقى مكانا خاصا في مفهومه هذا حيث يعتبر أن السيمفونية السديدة قد تكون نسخة ميتافيزيقية كاملة للوجود.
من ثم ندرك أن ركوب الموسيقى من أجل الوصول إلى الإله هي فكرة قديمة لا يمكننا أن ننسبها إلى التصوف الإسلامي وهذا ما يفسر لجوء العديد من الفرق المتصوفة ومراكزهم وزواياهم اعتمادهم على فرق موسيقية تعتمد طرقا خاصة وآلات موسيقية معينة وألحانا قدسية منسابة ونفاثة أحيانا وصاخبة تتوخى الخروج من الذات والارتقاء بالنفس إلى عالم أرقى وأصفى وأنقى.
وتجدر الإشارة إلى أن في الموسيقى أدوات عديدة يمكن بها أن نجعل المستمع يصل إلى حالة البكاء، ويمكن أيضا أن نصل إلى حالة الرقص القصوى وواضعو الموسيقى التراثية في الهند مثلا وكذلك في الأندلس تتناسب حتى مع الوقت والزمن: مثلا في الموسيقى الأندلسية ذات 11 نوبة تعزف كل نوبة في وقت معين: وذلك للعلاقة التي يتصورها واضعو الموسيقى والموجودة بين النفس البشرية والأجرام والسماوات.
وحسب د. ابراهيم حركات فإن محمد الفاسي في إحدى محاضراته شرح هذه الطبوع والنوبات كالتالي :
الماية : تدل على الفرقة واصفرار الشمس.
العشاق : تدل على طلوع النهار وتدفق الماء وفصل الربيع.
الاصبهان : الاستعطاف والرحمة.
رصد الذيل : الصبر والاستسلام
الاستهلال : تذكر الفرقة وهجران الحبيب
الحجاز الكبير : بلوغ الأماني والشعور بالاطمئنان والسعادة
عرق العجم : اليأس وانقطاع الأمل
الغريبة : الحزن والأسى
الحجاز المشرقي : الرقص واللطف
رصد : العزة والإباء
رمل الماية : في الأصل للتغزل ثم تحول لمدح النبي وما تمثل فيه من صفات السمو والجلال.