شكل المغرب الأقصى منذ الفتوحات الإسلامية وقبلها أيضا، كنقطة وصول بالنسبة للهجرات البشرية كيفما كانت غاياتها فتحا دينيا أو هروبا إلى الاستقرار أو ما إلى ذلك. وبالتالي فالهجرات كما هو معلوم لا بد أن تحمل معها إرهاصات ثقافات متنوعة… من هنا نستطيع أن نفهم تعدد الثقافات وتنوع الأهازيج والألوان الموسيقية وكثرة الآلات والأدوات التي تستعملها هذه الموسيقى بالمغرب.
ونخصص هذه الحلقة لنوع من هذه الآلات الموسيقية وهي آلة “التعريجة” الإيقاعية، فالتعريجة كما جاء في القصيدة للدكتور عباس الجراري، مستشار صاحب الجلالة، أنها ابتكرت بالمغرب عبر أسطورة عجيبة لا مجال لذكرها، ولكن حينما نجد نوعا من التعريجة يستعمل في بلاد الرافدين ندرك أن المد والجزر الحضاريين لعبا دورهما الحتمي، على إي حال، لا يمكن الجزم في هذا الموضوع، الذي نتركه للمزيد من البحث والتقصي .
فالذي يمكن قوله الآن من خلال هذا التناول هو أن التعريجة آلة إيقاعية محبوبة جدا من طرف المغاربة الذين استعملوها في عدد من الموسيقات التراثية، كما اتخذوها رمزا اجتماعيا أيضا. فهي بنت السهل تصنع من الطين على شكل تجويف يتخذ أشكالا مختلفة حسب النوع الموسيقي وحسب المنطقة الجغرافية تجلد من جهة واحدة فقط بجلد معين أيضا حسب الاستعمال ويرفق بأوتار يصل عددها أحيانا إلى ثلاثة، أما من حيث الطول والحجم فكلاهما يختلفان حسب النوع الفولكلوري أو الموسيقي، فعند فرق الدقة المراكشية وتارودانت نجدها تطغى على جميع الآلات الإيقاعية بل تعتبر آلة رئيسية لا محيد عنها يكون لونها هنا من لون الطين وطولها يتراوح بين 25 سنتيما و35 سنتيما وتنطلق إيقاعاتها هنا بالحمد الله وبفرح رجالي تهتز له الأبدان، كما تهتز له الخواطر.
وعند فرق العيطة نجدها صغيرة الحجم (8سنتيمات و10سنتيمات) تتخذ شكل جسم المرأة وتعزف بطريقة نسوية وخاصة بأصبع واحد تصاحب تلك الشيخة في عيوطها ورقصاتها.
وعندما تدخل التعريجة إلى المدينة تأخذ شكلا يليق بالمقام، فتزلج بعد تزويق وتنميق وتغير من مادتها الأصلية لتصير خشبية أو نحاسية فيستعملها شيخ الملحون في سرد قصائد شعرية أدبية غنية بالمدح النبوي والحكمة والموعظة، ناهيك عن مواضيع أخرى غزلية وغرامية … وهي عند ناس الملحون تكون ضرورية وأساسية وخاصة في إيقاع الكباحي الذي يستمد اسمه من أكباح ويعني الخصام والشجار، فالتعريجة الأولى تعزف إيقاعا يعتبر سؤالا وتجلد بجلد العتروس، وليس بها وتر والثانية بجلد الماعز وبها أوتار تجيب الأولى، ليتبادلا الأدوار عند الدور الايقاعي .
وأهم دور أدته هذه الآلة الإيقاعية العجيبة، التي تسمى التعريجة فهو أنها ( عرجت على جميع الأنواع الموسيقية المغربية ) واعتبرت كلعبة تصاحب الطفل المغربي منذ صغره فيتعلم عبرها بعض الأنواع الإيقاعية، كلالة منانة أجي تكوني خيتي، وكل علماء التربية يدركون ما لهذا الدور من مردودية على نفسية الطفل، وعلى أدراكه للزمن وتقسيماته الدقيقة.