*بقلم ذ. المعطي قبال
ماحي بينبين هو بلا منازع الوريث الشرعي لحكواتيي ساحة جامع الفناء بمراكش، ذاك الفصيل من الفنانين المجاذيب الذين يشدون أمام حلقات مكتظة من المتفرجين وعبر قصص تتزاوج فيها الخرافة بالاستهام، الأحلام بالإحباطات، الأمل بالوهم، يشدون أذهان عشاق روايات التاريخ الكبرى بحروبها الطاحنة وبسالة أبطالها الذين يطيحون الإمبراطوريات بحد سيوفهم الشاحذة. وهو طفل، كان ماحي يتردد باستمرار على حلقات الحكي هذه. وللتذكير، سبق لإلياس كانيتي أن خلد في نص بهيج ورائع عنوانه “أصوات مراكش: مذكرة سفر”، سحر الساحة وغرائبها.
ولا غرابة أيضا إن حط الروائي خوان غويتسولو الترحال في الساحة الشهيرة مترددا كل يوم على مقهى فرنسا الذي تتدفق أمامه نهار مساء حركة البشر، الماشية، السيارات، العربات وتصدح في العلياء أهازيج وافدة من ربوع البلد.
ماحي بينبين ابن المدينة، يعرف مداخلها، دواخلها وأسرارها ، كما يعرف هندستها القائمة على مبدأ التعاريج والمتاهات ، جغرافيتها الإنسانية التي تحتفي باختلاط المؤتلف. هناك الوافد من جبل الأطلس والريف المجاور، هناك العربي، البربري والأجنبي الذين ينصهرون في نفس الفضاء. لذا فالكتابة عن مراكش والحكي عن عراك ناسها اليومي هو بمثابة خبز يومي بالنسبة لكاتب رأى النور فيها، غاب عنها لسنوات أقام خلالها في باريس، ثم نيويورك قبل العودة إليها نهائيا كحضن واقي ودافئ.
ثمة جرح لم يتعافى منه الكاتب والفنان التشكيلي ماحي بينبين ألا وهو جرح اعتقال أخيه عزيز لمدة ثمانية عشرة عاما في مدفن تزمامارت أو ما سمي ب “معتقل الموت”، بعد أن وجهت له تهمة “المشاركة” في محاولة انقلاب الصخيرات. بالرغم من صاعقة الحادث، بقيت العائلة ملتحمة من حول الأم الشجاعة. أما الأب الذي كان جليس الحسن الثاني، فتبرأ منه إلى درجة حفره لقبر ودفنه رمزيا لابنه أمام العاهل المغربي!
اليوم، وإن تعافى عزيز وتغير الوضع، فإن الندب لا زالت ناتئة في لوحات ماحي بينبين ونصوصه الروائية. وقد عالجت رواية “مجنون الملك” هذه الواقعة.
ماحي بينبين ليس من عينة الكتاب الذين ينشرون كتابا كل عام لضمان تواجدهم في كاتالوجات الناشرين الفرنسيين ولا في موسم المسابقات على الجوائز الأدبية، بل يأخذ الوقت الكافي لالتقاط ومعاينة مصائر هشة و متصدعة، دخلت طور الفقدان: فقدان الهوية، فقدان العائلة، فقدان الشغل وسلمت أمرها لشارع يحكمه العنف وقانون الغاب. في مشغول الكتابة لدى بينبين، نشعر باليدين الخفيتين للرسام، النحات والفنان التشكيلي وهي تتدخل لتشكيل هندسة الفضاء، أقطابه الجغرافية، نوعية سيكولوجية الشخصيات الرئيسية. وتعتبر مراكش مدينة الحكي بامتياز، حكي يبدأ بالسخرية من الذات لينتقل إلى السخرية القادحة من الآخرين. لكنها سخرية مريرة متأتية من الأحزان والهموم. وتترجم بذلك الحكمة القائلة: “كثرة الهم تضحك”. جعلت نصوص ماحي بينبين من جامع الفناء مادة طافحة بتراجيكوميديا تنهل من البؤس المستدام للغالبية العظمي للمواطنين.
بعد إحدى عشر رواية أصدرها الكاتب في كبريات دور النشر الفرنسية، فايار، ستوك، فلاماريون، وترجمت إلى أكثر من لغة أجنبية، تصدر له خلال الأيام القادمة رواية جديدة في 234 صفحة بعنوان ” أخي الشبح”. وزع الكاتب أحداث الرواية على ثلاثة أمكنة رئيسية : المكان الأول هو مدرسة الراهبات المعروفة ب”قطرة الحليب” والواقعة في قلب جيليز، الحي الأوروبي. ثلاثة راهبات يسيرن بعناية، بحب كبير، لكن بقبضة من حديد قسم الابتدائي. بفضل والدته التي تعمل خادمة بالمدرسة، استطاع كمال أن يلج قسم الداخلية. لكن الام لا تكتفي بالتنظيف فقط، بل تعمل أيضا لتغطية مصاريف البيت في الخياطة والطرز. بانتقاله إلى داخلية المدرسة، حمل كمال معه إلى المدرسة شبحا خفيا أي شخصا اختلقه ليجعله صنوه المعاكس. أصبحنا أمام كائن مثنى، مزدوج الكيان، لا هو بالتوأم ولا هو بالسيامي بل عبارة عن نظير يجتمع وإياه في جسد وجسم واحد حتى وإن كانت كل الأشياء تفرق بينهما وغالبا ما يدخلان في عراك مرير. يضع الكاتب القاريء هنا أمام هذا الإشكال، أو اللغز المحير، إلى أن يكتشف هذا الأخير لما يتقدم في قراءة الرواية أنه بصدد شخص واحد، هو كمال، بطل الرواية الذي تنتابه نوبات حادة من الهلوسة يدخل على إثرها في مونولوج سريالي مع كائن وهمي.
المكان الثاني هو البيت العائلي الذي يحتضن سبعة أشخاص يتوزعون على أطرافه إلى غاية السطح. فهذا المكان البسيط الواقع في المدينة العتيقة والذي من المفروض أن يكون مأوى للدفء والحب العائلي، يحوله عمر، الأخ الأكبر، إلى “سجن” تندى حيطانه بالخوف والالام الصامتة. ولن تتخلص العائلة من بطش هذا الطاغية إلا بعد دخوله للسجن على إثر قتله لشامة الأخت الأكبر حين اكتشفها وهي تغدق القبلات على عشيقها في أحد الزوايا المظلمة.
المكان الثالث هو الشارع الذي تركن له الأغلبية لأنه مصدر عيشها. عمر الأخ الأكبر قرر أن يصبح سيد الشارع والساحة الكبرى لجامع الفناء، شكل لهذا الغرض عصابة متخصصة في السرقة، النصب والانتشال تستهدف السياح بالأخص. وهو خلف القضبان، حافظ عمر على سلطته وسطوته.
بعد حصوله على شهادة الابتدائي وما رافق النتيجة من أفراح، و نظرا لتمكنه من الحديث بثلاث لغات، عثر كمال بفضل مساعدة الأخت أديلايد، على وظيف كدليل سياحي في أحد الوكالات السياحية الكبرى بالمدينة. لكنه ما لبث أن طرد بسبب الغش، الاختلاسات والمداعبات الفجة للسياح. وكان طرده بداية لسقوطه في مطبات الخمر والهلوسات والملاحقات من طرف أشباح وهميين، تحف بهم العقارب، الأفاعي، الثعابين الخ…ينظر لهذه المخلوقات وهي تغادر ليلا خزانة الملابس لتتوزع على غرفة النوم. وقد تعودت العائلة والجيران على صراخ النجدة لكمال. وفي أحد الأماسي بعد أن أفرط في السكر أخذ دراجته النارية قاصدا البيت. في طريقه دهس طفلا توفي في الحين. اختبأ لبضعة أيام لدى صديقه يونس إلى أن طلب منه هذا الأخير، خوفا من ملاحقة البوليس، مغادرة المكان. وهو على دراجته النارية لاحقته الشرطة.
تلتقط الرواية صخب لمدينة يحرسها القديسون السبع ( سبعة رجال)، تختلط فيها الأجناس، يفد إليها معذبو الأرض لبيع بؤسهم، تنبعث منها عند مغيب الشمس أطياف راقصة على إيقاعات موسيقى الشطح الجاذب لمجموعة كناوة الموسيقية.
تضعنا الرواية في أحضان البؤس المادي، السيكولوجي لعائلة هشة فقدت قدرتها على الالتحام. فشلت الأم بالرغم من كل التضحيات في إخراج أبنائها من العالم السفلي. بالمقابل، “نجح” هؤلاء في الانغماس في الأقاصي ( الحشيش، الخمر، العنف، السرقة والتحايل). أصبحت هذه الثقافة اليوم ملجأ للأغلبية من الشباب الذي يغادر المدرسة ويخرج في سن مبكر إلى الشارع الذي يصبح ملاذا لكسب العيش وإن بالقتل. أو يبحث عن طريقة لركوب قوارب الموت غالبا ما ينتهي بها المسار إلى قاع البحر. ترسم الرواية من الداخل هذه المنزلقات وتبعاتها الخطيرة. منذ سنوات تعودنا أن يتحفنا الحكواتي بينبين كل مرة بحكاية هي مرآة لضوضاء المدينة، سحرها الظاهر وبؤسها الخفي، ابطالها الذين يصارعون الحياة بسيوف من خشب. هذه الرواية الجديدة لن تخيب بالكاد انتظارات القاريء.
كاتب صحفي