المجنون يدرع الطرقات، وينطق بكلمات غير مفهومة. أحيانا يركض مثل طفل فرح بالريح وهي تلفح وجهه الصقيل. وأحيانا يجلس مثل بودي يتأمل في داخله ذلك الموج العاتي والذي سيغرقه في بحر الظلمات. بعيدا عن البشر الذي ينظر إليه كحالة غير عادية في عالم يسيره العقل. لكن المجنون لا عقل له ولا سقف له. لأنه ضد الانضباط تسيره قوى عصية على الإدراك من طرف إنسان عادي.
المجنون قد يصبح خطرا لأننا لا ندرك في عينيه متى سيستيقظ بركان العنف فيه، ليطوح بكل ما حوله. ويزرع العاصفة في قلب العابرين.
قلما نترك مكانا للمجنون في الشارع العام. رغم أنه في يد العديد من المجانين العقلاء والذين يسيرون العالم ويقودونه إلى أماكن قد لا تخطر على بال أحد. هؤلاء المجانين العقلاء يعرفون كيف يبقوا متصلين بالعالم، بحيث يعرفون أن الجنون الحقيقي هو أن تظن أن العالم يستحق بشرا أسوياء.
المجنون يفقد اتصاله بالعالم، لأن إدراكه للأشياء أصبح رهينة لتشويش رهيب واندلاع مهول لأصوات قد تختلط في بينها لتخلق جوقة من المغنيين وهي تغني نشيدا لا ينتهي. كثيرا ما يضع المجنون يديه على أذنيه كي يخرس هذا الغناء، لكن يستعصي عليه ذلك. يقف، ينط كمن لسعته أفعى. يصرخ وينظر إلى الوجوه التي أدهشها اختراقه لهذا المشهد الآمن لأناس يمشون بهدوء نحو هدف معين. يمد يده مهددا وفي عينه نظرة من سقط من علو شاهق ولم يصدق أن روحه قد تهشمت كذلك. يهدد أناس وهميين لا وجود لهم إلا في شاشته التي فقد كل ألوان الحياة.
المجنون لا وقت له..ينام ويستيقظ كلما عن له ذلك.. يأكل كل ما عثر على شيء وأحس بأن أمعاءه قد بدأت تنتفض غاضبة.
أرض الله واسعة..لكن المجنون يعرف أن هناك أماكن لا يمكن ارتيادها. لأن جسده تلقى من العنف ما يكفي لكي يتراجع. فرغم أن الطريق لا تعني له شيئا فقد خطت بحروف بارزة في ذاكرته المتعبة. كما أن عليه أن ينتبه رغم أن عينيه أحيانا لا تريان شيئا، إذ يصبح العمى رفيقه والأصوات وحدها تجعله يدرك أن هناك حركة في هذا العالم.
المجنون لا ذاكرة له. كل الأزمنة اختلطت فيما بينها وعجلت ببروز زمن غريب داخله. أشبه بعاصفة من الأوقات والتي تتطلب منه أن ينحني لها ويتوقف عن الحركة.
المجنون مثل الشبح. ظل إنسان غادر ولم يغادر. يطفو فوق سطح الحياة مثل صورة أخرى للإنسان وقد فقد أوراق ثبوثية لوجوده في هاته الحياة. الكل يغير الطريق إلى الجهة الأخرى خوفا أو اشمئزازا. والكل يعرف انه هروب من هذا المصير الذي يمكن أن يتهددنا في أي لحظة قد نفقد فيها عقلنا.
المجنون هنا يسكن لا وعينا، ويسمع نبض الخوف فينا.
لن يتكلم لأنه يعرف أن لا أحد سيسمع نداءه البعيد.