حفار القبور، هذا الرجل الذي لانراه أو نتناساه. لا ننظر إلى وجهه، ولا نحدق في عينيه، ربما خوفا من الموت الذي شاهده مرارا ولابسه في الوجوه المكتبئة. لا أحد يتكلم عنه أو يذكره. مجرد نكرة في عالم الأحياء. نوع أخر من طينة البشر. يقيم طوال حياته بالمقبرة ويوم يموت لا بد من إيجاد حفار قبور آخر لمواراة جسده الذي لا شكل له. ثيابه رثة ومعفرة بالتراب ويده معروقة لا تفارق المعول.
من يتكلم معه أو يحاوره ؟ كل من جاوره يكون في حالة أخرى، إما فقد عزيزا أو أتى متضامنا مع أقرباء ليخلفوا وراءهم المهجع الآخير لكائن طالما حسب نفسه بعيدا كل البعد عن هذا المصير.
لابد لنا من أن نشكر حفار القبور، لأنه الوحيد الذي أنقذنا من هذه المهنة الرهيبة وهي حفر قبر لأعز الناس وغمره بالتراب. إنها مهمة صعبة وعمرها بعمر الإنسان .
في المقبرة لأ أحد يضحك أو يبتسم، سوى الحمقى الذين أخطأت خطاهم الطريق. كيف للحفار أن يفرح وهو في عرس الموت الذي لا ينتهي. ليس للحفار قلب داخل جسده. ما ينبض في صدره سوى آلة تضخ الدم في عروقه كي يستمر في الحياة ليدفن كل هاته الأجساد التي تأتي محمولة على الأكتاف أو داخل سيارة الموتى.
هذا الرجل لا ينظر إلى الآخرين. عيناه ملتصقتان بالأرض. لا يرى أبعد من المقبرة. مصيره أن يبقى هنا وأن لايزيغ بصره عن هاته الأرض المسورة. منذ أن امتهن حرفة الحفر هنا، فقد حكم على نفسه أن يكون خارج دائرة الحياة. كل ما يراه سوى هذا التراب الأسود والدافئ والذي يعرف رائحته حتى آخر جهد يبذله لكي يصل إلى المستوى المطلوب كي يتحول المكان إلى قبر حقيقي.
لم تعد عينا حفار القبور تدمعان. منذ زمن بعيد نسي الطريق إلى الدموع لأن روحه مترعة بأحاسيس أخرى ويقين آخر بأن الموت هو الحياة اليومية والتي يتغذى من تدفقها المستمر في هذه الأرض.
حفار القبور رجل صموت. يداه تتكلمان عبر المعول الذي لا يتعب. وحينما يأتي الليل يأوي إلى بيته الذي يجاور المقبرة لينصت إلى صمت الموتى والذين أودعهم واحدا واحدا في قلب التراب حتى يرتاحوا من تعب هذه الحياة التي تلاشت ملامحها في هذا المكان.
حفار القبور لا إسم له في مملكة الأسماء التي نحثت بعناية على شواهد القبور.