
باريس: زكية لعروسي

في عقر دار الثقافة العالمية، منظمة اليونسكو، تَجلى المغرب بكلّ بهائه وثرائه، في معرض فريد لا يروّج فقط لفنونه التقليدية، بل يوقّع للعالم على شهادة أصالته الحضارية وتفرّده الثقافي. معرضٌ حمل بصمة مغربية خالصة، حيث التصق التاريخ بالهوية، واختلط الطين بالنار، فأنجب فنا من الزليج والنحاس، وشغفا يتجسد في الزربية المغربية والقفطان المغربي الباذخ.
الحدث لم يكن عاديا، بل كان احتفالا دوليا بهُوية مغربية عصية على الذوبان، برعاية دبلوماسية ملكية حكيمة استطاعت أن تنقل صوت التراث المغربي إلى المحافل الكبرى، وتثبت للعالم أن المغرب، ملكا وشعبا، لا يروّج لنفسه كدولة فقط، بل كحضارة نابضة، وروح إبداعية لا تخبو.






في زوايا المعرض، التقيت بالحرفي المغربي المبدع السيد راجي عبد اللطيف، أحد رموز فن الزليج المغربي الأصيل. تحدث بحبّ وشهقة عن حرفة يعتبرها “الأم” التي منها وُلد، ومنها يتنفس. تعلّمها وهو في السادسة عشرة من عمره على يد المعلم الكبير محمد الناجي، أحد الأسماء اللامعة في فن الزليج المغربي. قال عبد اللطيف بكل فخر: “يكفيني أنني اليوم هنا في اليونسكو، بدعوة من سفير الثقافة المغربي، السيد سمير الدهر، الذي يعشق فن الزليج كما أعشقه أنا. وهذا وحده دليل على أن المغرب يعرف قيمة تراثه ويحرص على تصديره للعالم.”
لكن، رغم هذا التألق، لم يُخف عبد اللطيف قلقه من التراجع الذي تشهده الحرف اليدوية في الداخل، قائلاً: “أصبحت الأيادي التي ترسم وتكتب وتُبدع نادرة… هناك من الشباب من بدأ يدرك قيمة هذا الفن، لكننا بحاجة إلى مزيد من التحسيس والتكوين والترويج. الزليج ليس مجرد فن، بل هو هوية، وجزء من الصراع الثقافي في هذا الزمن.”
في ركن آخر من المعرض، أشرقت تيزنيت بجمالها، حيث أبدع الحرفي عكينز إيبورك في تقديم تحف من النحاس المنقوش، تحاكي الماضي وتغازل الحاضر. وكانت “الزرابي” المغربية، من الأطلس والصحراء، سيدة بامتياز، تنبض ألوانها بحكايا الجدات وأسرار الدروب العتيقة. أما القفطان المغربي، فقد خطف الأنظار، كأميرة تتهادى على منصة الملوك، فكل غرزة فيه تحكي قصة حضارة، وكل خيط يوثّق عبقرية أنامل مغربية لا تعرف إلا الإتقان.
ولا تكتمل الصورة دون ذكر “نقيش الحناء”، التي زيّنت أيدي الزائرات، فكانت رسالة أخرى من المغرب، أن الجمال جزء من الروح، وأن الزينة لدينا ليست سطحية، بل متجذّرة في الذاكرة والفرح.
لقد كان هذا المعرض أكثر من تظاهرة ثقافية؛ كان رسالة حبّ من المغرب إلى العالم. رسالة تقول: نحن شعب يتقن الجمال، يعشق تراثه، ويفتخر به. نحن بلد الزليج والنحاس والقفطان والحناء والزربية… نحن بلدٌ كلّ ذرة فيه تحكي مجداً.
وإنه لمدعاة للفخر أن نرى أبناء الوطن، من مسؤولين وسفراء ومبدعين، يشتغلون بجدّ خلف الكواليس لتلميع صورة المغرب الثقافية. فالدبلوماسية المغربية، تحت القيادة الملكية السديدة، لا تتحرك فقط في ساحات السياسة، بل في ميادين الهوية، وتؤمن أن من لا تراث له، لا مستقبل له.
فلنا أن نفتخر أننا مغاربة نفتخر بزليجنا الذي لا يشبه غيره، ونحاسنا الذي ينطق فنا، وقفاطيننا التي تروي حكايات ألف ليلة وليلة. نفتخر بشباب بدأ يستعيد وعيه بأهمية الحرف نفتخر أن المغرب، بتراثه ودبلوماسيته، بات يلمع في عيون العالم والمغرب، حين يلمع… لا يغرب.






