أخبارفي الصميمكتاب الرأي

نظرية التمكُّن بين سبويه ووزارة الثقافة: من قواعد النحو إلى مهزلة العارضات

بقلم: زكية لعروسي

من باريس، اهتزت الأرض تحت قدميّ وأنا أطالع “العارضة” الفضيحة، تلك التي اجتمعت فيها كل الألوان والخطوط إلا ضوء الحقيقة. حيث رأيت فيه “المضاف إليه” يتبختر بالضمة، ويعتلي “المبتدأ” المنصة مكسرا مهزوما. تساءلت، وأنا أخصائية في النحو واللغة: هل فاتتني حالة شاذة؟ هل مرّ عليّ نصّ نادر لم يظفر به أحد قبلي؟ فركت كتب النحويين كما تُفرك المصاحف في الكُرب، قلبت “الكتاب” لسبويه، وختمت “شرح شذور الذهب” لابن هشام، وفتّشت في “دلائل الإعجاز” للجرجاني، فوالله ما وجدت مبتدأ مكسورا، ولا مضافا إليه متضخما منتفخا بالضمة.

يا سبويه، يا جرجاني، يا استرباذي… قوموا من قبوركم، فالنحو قد جُرّ من عنقه، والمبتدأ قد نُحر، والخبر يُهان بفتحة لا تليق بمقامه. إن كان “التمكين” عندكم مبدأ نحويّا يُقاس به تقسيم الكلام، فها هو اليوم يُسحب إلى منصة ملتقى، مصلوبا على عارضة تحت رعاية وزارة الثقافة… ويا للمفارقة!

عزيزتي وزارة الثقافة، أي تمكين هذا الذي يشرّف به المبتدأ بالكسرة، ويُرفع فيه المضاف إليه بالضمة؟! أتراكم تقودون ثورة في الإعراب؟ أم أنكم قررتم قلب الطاولة على سبويه ومن معه؟

لو كانت هذه “الزلة” من تيكتوكير جديد، مبتدئ في عالم الإملاء والنحو، لغفرنا له، وضربنا على كتفه وقلنا: “غلط بسيط”. لكن أن تصدر من مؤسسات رسمية، ومنصات ثقافية؟ هنا نقف، نحدق في الشاشة، ونلعق جراحنا.

ابن خلدون كان صريحا حين قال: إذا تولى الأمور من ليس من أهلها، فانتظر الخراب. وقد فعلنا… خرّبتم النحو.

أينك يا سبويه؟! أينكم يا من حفظتم اللغة وزينتموها؟! في زمن صار فيه النحو ضحية للعارضات، لا لعارضات الأزياء، بل عارضات الملتقيات، اللواتي يعرِضن لنا فضائح لغوية بحجم المشرفين.

نظرية التمكُّن التي بُني عليها علم النحو منذ القرون الأولى، والتي تقول إن الاسم أقوى تمكّنا من الفعل، والفعل أقوى من الحرف، انقلبت رأسا على عقب. فأصبح الحرف سيدا، والفعل يتدلّى بالحيرة، والاسم في قاع الاستهانة. والضمة التي كانت يوما تاجا على رأس المبتدأ، أُهديت بسخاء للمضاف إليه!

والله يا قرائي الاعزاء، حتى “خيرة” أمي، الزجالة، التي لم تعرف يوما فصول المدرسة، تعرف أن المضاف إليه لا يُرفع. تعرف أن الكسرة ليست من علامات الفخر، بل من دلائل الانتماء. فهل ضاع انتماؤنا نحن؟!

آه، لو كان الجاحظ على قيد الحياة، وقرأ ما على تلك العارضة، لنتف لحيته ومعه المعلمون، ولدفن الشعراء قوافيهم تحت أقدام أمهات الكتب.

يا اهل الثقافة تمكينكم اللغوي أولى من تمكينكم الإداري. وإلا… سقطت العارضة وسقطنا معها. للتذكير فقط ومحاربة الأمية نذكر ما هي نظرية التمكُّن؟

قال أهل النحو، في أول الدهر وآخره، إن الكلمة في العربية تختلف في درجة التمكن:

-الاسم: أكثر تمكُّنا، يُعرَّف، يُنكَّر، يُنوَّن، يتصرّف، يدخل عليه كل شيء: حرف الجر، النداء، التوكيد… إلخ.

-الفعل: أقل تمكُّنا، لا يُعرَّف ولا يُنوَّن، لكن له أبواب التصريف.

-الحرف: لا يتمكّن بشيء، لا يُنوَّن، لا يُعرّف، لا يقبل شيئا… مجرد تابع متطفل يعيش على هامش الجملة.

ومن هذا التدرج في التمكُّن، جاءت علامات الإعراب:

-الضمة: للرفع، وهي “أقوى الحركات”، وتليق بالأقوى تمكُّنا (الاسم غالبا) وهي من نصيب المبتدأ في الجملة الرسمية.

-الفتحة: للنصب، أضعف منها.

-الكسرة: للجر، وتُعطى للمضاف إليه لأنه “تابع”، تابع لا يعلو.

فما الذي حدث يا تُرى؟

هل قررت وزارة الثقافة أن تثور على نظرية التمكُّن؟

هل أرادت تصحيح التاريخ النحوي بتوزيع الحركات بالمقلوب؟

أم أنها ببساطة… لا تعرف ما معنى التمكُّن؟

من تمكُّن الكلمة إلى تمكُّن الكارثة

ما حدث على “عارضة” الملتقى الثقافي ليس مجرد خطأ، بل انهيار لمنظومة كاملة. من تمكُّن الكلمة إلى “تمكُّن كارثي للمسؤول”، والتمكُّن هنا بمعناه الإداري، لا اللغوي. فالمشكلة أن من تمكّن من المنصب، لم يتمكّن من اللغة.

في النحو، المبتدأ يرفع لتمكّنه، وفي ملتقى الوزارة، يُكسر لضعف القائمين عليه.

في النحو، المضاف إليه يُجر لتبعيّته، وفي الوزارة، يُرفع لغرور من لا يُميز بين التنوين والكسرة.

إن الضمة سقطت في غير موضعها، مثلما سقطت “المسؤولية” في غير أهلها. وهنا نسأل: أي تمكُّن هذا يا وزارة الثقافة؟!

إن كان هذا هو “التمكين” الذي تبشرون به، فابكوا على اللغة كما تبكون على كتب تُرمى في زوايا النسيان. وإن كنتم تجهلون أن في الكسرة معنى، وفي الضمة دلالة، فالأَولى بكم أن ترفعوا الراية البيضاء، لا راية ملتقى.

يا من وليت لكم مسؤولية الثقافة، إن تمكُّن سبويه في ضبط الكلمة كان أعمق من تمكُّنكم في صياغة جملة. الفرق بينكم وبينه، أن “تمكُّنه” قام على المنطق، واللغة، والذوق. و”تمكُّنكم” قائم على العشوائية، والجهل، والتزيين الإعلامي الفارغ.

يا وزارة الثقافة، لا ترفعوا ما وجب جره، ولا تجرّوا ما وجب رفعه. فأنتم – أحببنا أم كرهنا – عنوان وجه الثقافة في بلدنا الحبيب. فإن أسأتم التشكيل، أضعتم التمكين، وقلتم: هذا لحن بسيط!

لكن، عذرًا… ليس في النحو أخطاء بسيطة. لأن في كل فتحة مبدأ، وفي كل كسرة انتماء، وفي كل ضمة سيادة. فلا تهينوا السيادة باسم الحداثة، ولا تذبحوا القواعد على عتبات الملتقيات.

زر الذهاب إلى الأعلى
Soyez le premier à lire nos articles en activant les notifications ! Activer Non Merci