«دهاليز السياسة خلف بخار القهوة»

بقلم: زكية لعروسي

في لحظة هائمة بين الواقع وبخار قهوتي، تسللت فكرة تناسخ الأرواح إلى عقلي كهمسة خافتة تتردد عبر الزمن، همسة خافتة تلامس شغاف الروح وتدعوها لعبور الحاجز الفاصل بين الممكن والمستحيل. شعرت أن جانبي الصوفي، المثقل بما قرأت وتأملت في عوالم ما وراء المادة، قد صار دليلي في عالمنا الغريب. كنت أقف أمام بؤبؤ البخار، أراقب تموجاته وهو يهمس لي بوعد خفي: ربما يمكنك، يومًا ما، أن تعبرين. وربما لن تجدين نفسك إلا في مرايا أخرى، في أرواح أخرى.

لكن شيئًا في أعماقي ارتجف عندما بدأت أتخيل بوابةً جديدة، بوابة تفتح على عالم يرتبط بالآلات لا بالأرواح، حيث التقنية تطغى على الحكمة، وحيث الفلسفة لا تجد لها مكانًا إلا كأطلال مندثرة. تخيلت نفسي أهبط في زمن غريب، لكن ما أرعبني هو رؤية عوالم لم تعد تحتفي بالروح، بل استبدلت بخرائط رقمية تحكمها الآلات. رأيت عالماً يرزح تحت نير التقنيات العدمية، حيث أصبح الساسة أدوات دمار لا ينضب وقودها. في مركز هذا المشهد، ظهرت ملوك على رقعة شطرنج تحترق، مسخرون من طرف آلهة الخراب لإشعال فتيل الحروب في زوايا كل رقعة من هذا العالم.

تساءلت: كيف يمكن مخاطبة هؤلاء بكلمات تحمل الحكمة التي نسوها؟ أيمكن أن تكون شهرزاد جديدة، شهرزاد التيكترية، هي الوسيلة لإيقاظ أرواحهم المتحجرة؟ لكنها ليست شهرزاد الحكيمة التي نسجت حكايات الليل لإنقاذ حياتها. بل هي شهرزادٌ مبتورة اللغة، محاصرة في مقاطع قصيرة تخلو من المعنى، تعيش في عصرٍ من دون هدف، عصر التيكتوكورات والتيكتوكور، حيث الكلمة فقدت قيمتها أمام سرعة الإبهار اللحظي. أعين ترقب شاشات صغيرة كأنها مرايا روحهم المفقودة. عصرٌ بلا عمق، بلا هدف، بلا مغزى، حيث باتت الكلمة أثراً عتيقاً، والموازين انقلبت لتصبح الخفة أثقل من حكمة الدهر، و النبضات رقمية تختصر معاني الحياة في مقاطع لا تتجاوز الثواني؟ هل سيفهمونها؟ وهل ستفهمهم؟

كيف ستفهم “شهرزاد التيكترية” هؤلاء الساسة الذين يمارسون التطرف كأنهم يعزفون سيمفونيةً السواد؟ كيف ستواجههم، وهم يمارسون سياسة الدماء والموت كما لو كانوا آلهة على جبل أوليمبوس؟ تخيلتها تحاول بث الحكايات المبتورة عبر شاشاتهم الصغيرة، لكنها لن تلقى سوى أعين زجاجية لا ترى سوى قوتها الطاغية.

شعرت بالخوف. ليس من التكنولوجيا في ذاتها، بل من عالم تنزع فيه الروح من الكلمة، حيث يصبح الإنسان مجرد خوارزمية عابرة، واللحظة هي كل شيء. لكن رغم هذا الخوف، تساءلت إن كان بالإمكان زرع بذرة جديدة وسط هذا الخراب، بذرة تعيد للإنسان جوهره الضائع. ربما شهرزاد التيكترية ليست إلا البداية، ربما حكاياتها الرقمية ستصل إلى أعماق جديدة من الروح البشرية لم أدركها بعد.

وعيت اننا على أعتاب عالمين، أحدهما يعج بالفوضى السطحية والآخر يحتضن عمقًا ضائعًا. فتراني أواجه سؤالاً أخلاقياً : هل أختار أن أكون “سليلة الغياب”، أراقب العالم ينهار وأنا أمسك بمبادئي، أم “ابنة الدمار”، أقاوم الخراب باستخدام ذات الأدوات التي صنعت الخراب؟ أي الخيارين أكثر حكمةً، وأكثر إنسانيةً؟ هل أستطيع مواجهة بوتين وساسة الدمار بالكلمات؟ هل يمكنني أن أقنعهم أن الهواء الملوث الذي نطالب به نحن الباقين، أسمى من خرابهم الذي يحرق كل شيء؟

أدركت حينها:

– أن دوري ليس في الهروب، بل في البحث عن المعنى، في إعادة صياغة الحكاية، في تعليم “شهرزاد التيكترية” كيف تروي قصة تبقى، كيف تعيد للكلمة قدسيتها في زمن يقدّس الخفة على حساب العمق.

– ان خلاصنا قد يكون في رموز بسيطة: الكلمة، الحكمة، وربما في فنجان قهوة دافئ. ربما على عاتقي أن أُعلِّم شهرزاد التيكترية أن الكلمة ليست مجرد نبضة عابرة، بل هي اصدق انباء من النصل، وفي حروفها الحد بين الجد والتهديد،.

-أن احرص على ان لا تكون شهرزاد التكترية سليلة الغياب مثلي، ولا ابنة الدمار، بل الجسر بين الكلمة والمعنى، بين الحكمة والقوة، بين الماضي والمستقبل. بين رجل امتشق أساليب الصيد بسطوة القوة، وامرأة أذعنت صاغرة، واستكانت بضعف الخنوع….