رسائل زكية لعروسي من باريس: الظاهرة الشعرية منعم رحمة

بقلم: زكية لعروسي*

“فارقتُ، ولكن لم أودّع كاهن الشعر، وما زالت نجومه تنحني لتقبل عيون خيالي…”هكذا يُفتتح حديثي عن شاعر فريد من نوعه، عن الظاهرة الشعرية منعم رحمة. في أسبوع ملتقى الكتاب العربي، الذي انعقد بدار مصر، اجتمع الأدب والشعر في واحة خصبة جمعت ألمع المواهب، وكانت الملتقى لفيض الشعراء الذين يملكون حساسية مرهفة سواء كانوا من الرجال أو النساء. هناك، وسط زخم الإبداع، كان منعم رحمة كأنه فارس مغوار بين كتّاب وشعراء، يغازل الحروف بسيف قلمه، ويخطف قلوب الحاضرين ببلاغته الفريدة.

 

 

منعم رحمة ليس مجرد شاعر يجيد نظم الكلمات، بل هو صاحب رؤى لغوية وفلسفية عميقة. تتجلى في أشعاره جمالية اللغة المحترفة والمتألقة بنار الابتكار اللغوي، وقدرة على سبر أغوار الروح البشرية. وهو أشبه بطائر يحلّق بجناحي لهيب لغوي، يعانق السماء ويجذب المتلقي إلى عالم مدهش من الكلمات والصور التي تتداخل كما تتداخل خيوط بيت العنكبوت، فيتشابك المعنى ويتمازج، لكنه دائماً ما يبقى واضحاً بلا غموض ولا تعقيد مفرط.

الشاعر منعم رحمة يكتب بروح تشبه كل ما هو موجود على وجه الأرض، يضع في قصائده توابل الحياة وشجرها وصوفها. حضور الموسيقى والفن التشكيلي في نصوصه يبعث في المتلقي شعوراً بالدوار وكأن الكلمات تتراقص على نغمةٍ لا نعرف سرها، ولكننا لا نملك إلا أن نطلب المزيد. هذا التناغم بين الشعر والفنون الأخرى يجعل من شعر منعم رحمة حالة متفردة، تتحدى التصنيف ضمن تيار أدبي معين.

 

 

إنه شاعر لا يشبه غيره، بل هو نسيج وحده، ينسج قصائده بخيوط فلسفية وروح صوفية متزنة، فتراه يمزج بين الثورية والروحانية في تناغم مذهل. يحتفي بالكلمة، ويمنحها أبعاداً لا محدودة، فيقتبس من الآيات القرآنية، ويرسل في شعره تراتيل لغة واضحة لا تعقيد فيها ولا ضياع. وهذا ما يجعل قصائده تتدفق بسهولة إلى القلوب والعقول، فتلامس الروح قبل أن تصل إلى الأذن.

منعم رحمة يذكّرنا بما أكّد عليه الجاحظ في ضرورة أن يتنوع الأديب في معارفه، وأن يلمّ بأطياف متعددة من العلوم والدين والفكر، ليكون قادراً على إبداع أدب لا يموت. كما يتجلى في أعماله ما قاله ابن قتيبة: “إذا أردت أن تكون عالماً فاقصد لفن من العلم، وإذا أردت أن تكون أديباً فخذ من كل شيء أحسنه”.

إنّ منعم رحمة، كما أراه، هو ساحر الكلمة، يُلقي قصائده فتضيء السماء، وتنزل النجوم في بريق عيون مستمعيه. وكلما تحركت كلماته في اتجاهات مختلفة في اللحظة ذاتها، نشعر كأن المستحيل قد تحقق. لقد سحرني بلاغته، وجعلني أغوص في بحر لغته المليئة بالخبايا والرموز. صوره الشعرية تأسر الروح، وتتمكن من العقل، فتغوص عميقاً في النفس، وتبقى عالقة في الأذهان.

منعم رحمة هو ظاهرة شعرية فريدة، لا يمكن اختزالها في كلمات قليلة. إنه شاعر يملك ألف لون، ويتحدى حدود الشعر واللغة. يظل في كل قصيدة، وفي كل كلمة، يقدم شيئاً جديداً ومدهشاً، يجبرنا على التأمل والإنصات، وعلى الاستمرار في طلب المزيد.

* شاعرة مغربية مقيمة في باريس