صدر للكاتب و الصحفي عبد الحميد جماهري مقال في موقع “العربي الجديد” بعنوان “بين المؤرخ والملك: هل يحقّ للمغرب القول إنّه قوّة إقليمية؟”. و نظرا لأهمية المقال، نعيد نشره بالكامل.
هل يحقّ للمغرب أن يقول إنّه قوّة إقليمية؟… عن هذا السؤال يجيب عبد الله العروي الذي يعدّ أحد الكُتّاب والمُفكّرين الكبار، الذين يُؤخذ رأيهم بكامل العناية في أوساط النخبة والحُكم في المغرب، فيقول: “ليس نحن من عليه القول إنّنا أصبحنا، أم لا، قوّة إقليمية، بل الآخرون”. ولعلّ ملاحظة المؤرّخ صاحب “الأيديولوجيا العربية المعاصرة” (المركز الثقافي العربي، بيروت، 5991)، تنطلق من أنّ الدبلوماسية المغربية، في سياق انطلاقه من هذه المعاينة، انتقلت من دبلوماسية ذات طابع “سلبي” مُفرط في المُواضعات الرتيبة، كما تميّزت به “دبلوماسية الأنظمة الملكية التقليدانية” (tsilanoitidarT)، وانتقلت إلى دبلوماسية ذات نشاط محموم يقطع مع الرتابة والتحفّظ السابقَين. ولعلّ في هذا توصيف لمظاهر الحيوية والترافع الهجومي، بل التحرّر من عقد سابقة، تجعل الغربيين، أساساً، يرون فيها بعض النزوع نحو التعالي، إن لم نقل التفاخر المُستجدّ.
أصبح المغرب يسائل حلفاءه بخصوص الموقف من الصحراء، قبل بناء أيّ شراكات، لا سيّما الاقتصادية منها
ويُفكّر العروي، كما يُفكّر آخرون، بأنّ مردّ هذا الموقف والتصرّف باعتباره قوةً إقليمية هو الموقف الأميركي الجديد المساند لمغربية الصحراء، الذي جعل المغرب أكثر اطمئناناً على قضيته الوطنية، التي زكّت مواقفُ واشنطن موقعَه فيها على موائد القرار الدولي. ولكن، يبدو أنّ حصر التحوّل في الموقف الأميركي وحده قراءة يتقاسمها المُؤرّخ والمرافق الحذر للقضايا المغربية، مع قوى سياسية، لا سيّما في الغرب الأوروبي، ولعلّه موقفٌ غير دقيق، أو على الأقلّ اختزالي، أيضاً، في تقدير التغيّر الذي حصل في ربع قرن من الزمن الدبلوماسي المغربي الجديد.
فأولاً، بدأ الاختراق المغربي، والقطيعة مع موقف الانتظارية وتلقّي آثار الفعل الجيوستراتيجي والاكتفاء بالردّ الدفاعي عنها، قبل تاريخ إعلان موقف أميركا الجديد. كما يظهر من خلال مواقف وقرارات وشراكات عديدة، باعتبار أنّ تنويع الشراكات والحصول على شركاء استراتيجيين حصل قبل الموقف الأميركي بأربع سنوات على الأقلّ، ومن ذلك، التوجه إلى الصين وروسيا في2016 ، وخطاب الملك محمد السادس في الرياض في إبريل/ نيسان من العام نفسه بشأن التموقع داخل منظومة التعاون الخليجي العربي، وألحّ الملك على أنّ بلاده “ليست محمية لأيّ كان”، بمن فيهم الشركاء التقليديون، وتحديد العقيدة الدبلوماسية الجديدة المبنية على تنويع الشراكات الاستراتيجية، علاوة على تغيير العلاقات في الداخل الأفريقي، بالأساس، والعودة إلى الأسرة المُؤسّساتية (أفريقيا) في العام التالي لهذا التوجه (7102).
ثانياً، يكتب العروي أنّ “موقف بعض البلدان التي نشتكي منها يبرهن أنّ الاعتراف لم يحصل”، وهو في ذلك يشير بالأخصّ إلى فرنسا، التي ظلّت وما زالت لم ترتفع بموقفها إلى ما يطلبه المغرب. والحال أنّنا نجد أنّ الملك محمد السادس، الذي يعدّ مهندس الدبلوماسية، مجاله المحفوظ دستورياً، يَعي هذا الأمر نفسه عندما يقول، في إحدى خطبه (2021) بمناسبة ذكرى 20 أغسطس (1953)، “هناك من يقول إنّ المغرب يتعرّض لهذه الهجمات، بسبب تغيير توجهه السياسي والاستراتيجي، وطريقة تعامله مع بعض القضايا الدبلوماسية، في نفس الوقت”.
ويرد في الإطار نفسه، بما يُشكّل تصحيحاً للنظرة الغربية، لا سيّما من سمّاهم هو نفسه بـ”قليل من الدول خاصّة الأوروبية، التي تعد للأسف من الشركاء التقليديين”، ويعتبر أنّ هذه التهمة غير صحيحة، فإذا كان المغرب قد تغيّر فعلاً، فذلك لم يتم كما يريدون “لأنّه لا يقبل أن يتم المسّ بمصالحه العليا. وفي الوقت نفسه، يحرص على إقامة علاقات قوية، بنّاءة ومتوازنة، خاصّة مع دول الجوار”. وهو ما يحيلنا، هنا، على فهمٍ يرى أنّ المغرب كان يدرك أنّ سقفاً زجاجياً موضوعاً فوق رأسه من طرف حلفائه التقليديين، حتّى تظلّ عواصمهم وقنواتهم الدبلوماسية هي الممر الإجباري والوحيد لعلاقاته الدولية، وبناء شراكاته الاستراتيجية، ووجوده في القارّة الأفريقية، ضمن دائرة مُحدّدة منذ القدم، وهو أمر لم يعد العهد الجديد يقبل به. وأصبح المغرب يسائل حلفاءه بخصوص الموقف من الصحراء، قبل بناء أيّ شراكات، لا سيّما الاقتصادية منها، في أفق وقف مناكفة المغرب في قضية الصحراء. وهو ما ينتهي إليه عبد الله العروي عندما يكتب في الفقرة نفسها (ص 26) أنّ “سيادة المغرب تكون موضع معارضة. وتصبح وسيلة للضغط على البلاد”، كما هو واقع للمغرب. وهو بذلك يلتقي موضوعياً مع الدبلوماسية الملكية النشيطة، عندما يدعو في خلاصاته إلى: “أن يكون الهدف منطقيا هو تغيير هذا الواقع بهذه الطريقة أو تلك، أي وقف المعارضة” لسيادة المغرب.
ثالثاً، من عناصر الحضور الإقليمي الوازن ما ميّز تحركات المغرب، من دون الإعلان عن ذلك، ومن دون صخب وجعجعة إعلامية، هو التوجّه نحو القوة المركزية في دول “بريكس” التي تجمع القوى الصاعدة والقوة الإقليمية المركزية، اليوم، في العالم، من خلال شراكات مُتعدّدة مع الصين والهند والبرازيل، وصلت إلى مجال التصنيع العسكري والإقلاع الاقتصادي، إضافة إلى أدوار أخرى، وهو معها يدعو إلى قيام نظام عالمي مُتعدّد الأقطاب.
يؤخذ في الاعتبار الانخراط الشخصي، الجسدي والرمزي، للملك محمّد السادس في عمليات الحراك الديبلوماسي. ويجب ألّا ننسى أنّ الملك، الذي يصفه كثيرون من الذين عملوا معه بشجاعة تفسر زيارته دولاً كانت تعادي المغرب (كوبا نموذجاً) أو ذات منسوب متقلب في الأمن (نيجيريا). ولعل الأبرز هو ما طرحه الباحث محمد الطوزي في حواره مع “جون أفريك” (مايو/ أيار 2024) عندما تحدّث عن الأدوار المُحدّدة دستورياً للملك من جهة، والأدوار التي يلعبها العاهل المغربي بفعل ما تراكم من تاريخ وثقافة بين علاقات فردية وما صقله من أسلوب شخصي في تدبير علاقاته الدولية.
لعلّ المغرب انحاز إلى القوى الجديدة من دون قطيعة مؤلمة (باستثناء فرنسا) مع القوى التقليدية
رابعاً، التفكير الذي يحدّد الأدوار هو الذي يأخذ بعين الاعتبار مجال التحرّك السياسي والاقتصادي والجيوستراتيجي، وهو، هنا، مجال قاري وإقليمي بامتياز، كما يتبين من خلال ثلاث أبعاد على الأقلّ، لها انعاكسات إقليمية واضحة. المجال الأفريقي أو الجذور، فالقارّة الأفريقية موضوع طموحات إقليمية كبيرة، فيها تجاذب بين القوى الصاعدة والقوى التقليدية، ولعلّ المغرب انحاز إلى القوى الجديدة من دون قطيعة مؤلمة (باستثناء فرنسا) مع القوى التقليدية. وهناك المجال الأفرو ـ أطلسي، من خلال الدور الذي انطلق في لعبة في بناء مجموعة الدول 21 الأفرو ـ أطلسية، والتي تملّكت هذا البعد في أفقها الجيواسراتيجي منصةّ إقليميةّ موسّعة، تعمل إلى جانب وحدة إقليمية أفريقية، هي مجموعة الساحل، التي أدرجتها الرباط في حيويتها الإقليمية من خلال مبادرتها لتنظيم دول المنطقة في تشبيك تنموي وأمني جديد. وذلك، من خلال دعوة ملك المغرب، في 6 نوفمبر 2023 ، إلى بناء جسر برّي للدول المعنية نحو المحيط الأطلسي. وهو موقع لا يخدمه قارّياً فقط، بل يجعله رقماً لا يمكن تجاوزه في المعادلة المعاصرة، إزاء أوروبا، كما إزاء أميركا بشقّيها الشمالي والجنوبي.