لا يخلو بيت فلسطينيي من ضحية (شهيد، جريح أو أسير)، جراء حرب الإبادة الجماعية، التي تخوضها إسرائيل ضد فلسطينيي غزة، وفي مقدمتهم الأطفال والنساء والشيوخ. الأرقام، المتواترة عن نوعية الضحايا، تؤكد سياسة الاستهداف هاته، وأبعادها. في مقابل ذلك، “يبدو” أن ليس هناك بيت في العالم الحر لم تدخله مأساة فلسطين، وبالتالي لم تترك “أثرا” على الضمير والوجدان الإنسانيين لدى أهليه؟
بقدر حجم المأساة الفظيعة، التي لم تنته فصولها الجحيمية، على أيدي مجلس الحرب الصهيوني، بات يترسخ الحق الفلسطيني في الحياة، والحرية، والكرامة. لا يمكن غض النظر عن العالم، الصائر إلى التحول، اليوم، باتجاه التعاطف مع الفلسطينيين، كما لم يحصل من قبل، وبخاصة في الأوساط الغربية، الأوروبية والأمريكية.
ومع ذلك، لنخرج من الحديث العام عن العالم، وباسم العالم، لعموميته وغموضه. عوضا عن ذلك، الميل إلى الحديث عن كتابنا المغاربة، وما يجري في غزة اليوم، أجدى نفعا في هذه الزاوية. بشكل عام، يحصل تفاعل الكتاب مع “موضوع غزة” بطرق إيجابية مختلفة. نلمس أخف ذلك في الإحساس العام، من خلال الحوارات المباشرة العابرة، التي غالبا ما تنتهي إلى التعبير عن قلة الحيلة، ثم إلى الاستياء من تهلهل الوضع القومي العربي العام، سياسة واقتصادا وثقافة (إلخ). من في الطرف الآخر النقيض، هم أقلية “عنصرية” محدودة، وإن ازدادت جرأة أصحابها، بشكل ملحوظ، بعد موجة التطبيع الأخيرة. شعارهم، كان ومازال منذ مدة: تازة قبل غزة.
في إطار الفئة الأولى، المتفاعلة إيجاباً مع غزة، يلاحظ انحسار ملموس في درجة الاحتجاج المتفاعل على العدوان الهمجي، كما ونوعا. ليس المقصود بذلك الكتابة عما يحصل للفلسطينيين، في شكل نصوص إبداعية أو ما شابه. تلك نظرية، ربما انتهت إلى زوال لدى محترفينا من الكتاب. حدود الأمل القصوى، كانت معقودة على الإحساس بهول المأساة، عبر كتابة مجرد تدوينة على حائط الفايسبوك (مجرد تدوينة ممن يتعاطون النشر على صفحات الفايس على سبيل المثال).
هل قام كتابنا ب “أضعف الإيمان” هذا، أي خارج إطار ما ظل يدخل في أنشطتهم اليومية العامة، منذ ما قبل العدوان، واستمر، بعد ذلك، في المواضيع ذاتها، بدون أي تغيير نحو ما يحدث من فظاعات اليوم؟ لماذا لم تتغير يومياتهم الفايسبوكية، مثلا، على الرغم من يوميات الحرب الصهيونية القذرة، عبر أكثر من صوت وصورة؟ لماذا لم ينم عن هؤلاء حتى مجرد نشر صورة علم فلسطيني، مثلا، على الحائط ذاته، صدورا عن مواقف من التعاطف والتضامن مع أهلنا بغزة؟ هل هذا التعبير، وتعبيرات أخرى مفترضة، ضرورية، في ظل ما يجري من إبادة جماعية؟ هل هو الهرب من الإحساس بالعجز العارم، وبالمقابل الانسحاب السريع إلى اللامبالاة، لصم الأذن عن سماع أي صوت شقي مزعج؟
الضمير الإنساني العالمي صار يصخب، ويتحرك أكثر فأكثر. وصوته، إن بات يعلو، هنا أو هناك في الغرب، فإنه بات عندنا، هنا، يخفت إلى أن كاد ينطفىء. لم يعد، هناك، فارق بينه وبين نظيره “الرسمي”، المتعلل بالتوازنات الدولية المختلة، سواء على مستوى الدرجة أم على مستوى القيمة. اليوم، إسبانيا وبلجيكا وإيرلندا (ودول آسيوية وإفريقية أخرى) تعلن عن مواقف تقدمية كبيرة، لا نظير لها في دول ما يسمى العالم العربي. وإذ غدا الصوت السياسي يلتحق بالصوت الثقافي في الغرب، بات الصوت الأخير لدينا يلتحق بالصوت السياسي الرسمي. صوت الكتاب، وإن كان لا يجد تفسيره في نظيره الرسمي، من حيث مبرراته ودرجة تأثيره، إلا أنه -وللأسف- أضحى يتقاطع معه، على مستوى النتيجة العامة: الإحساس بالخيبة، واليأس والضياع.
الأغلبية صارت تنخرط في الصمت المطبق، على الرغم من مشاهد المأساة اليومية المتكررة. “لا عين رأت ولا قلب وجع”، هكذا ظاهر حال أغلبنا أصبح يقول اليوم. والمثير للتساؤل، أن ليس لذلك صلة بقلة التعاطف، بل بأسباب أخرى لم نتبينها إلى الآن. ومع ذلك، فهل من شأن كتابنا ومثقفينا مجاراة الإحساس الشعبي العام، بدل حفز المواطنين على التفاعل مع قضية عادلة، ومن ثم دفعهم إلى الحفاظ على البعد التضامني معها؟!!! أليس هذا هو دور المثقفين في البداية والنهاية: قيادة العيون المشرئبة للنور إلى مصدر الضوء؟
إنها مجرد أسئلة، وليس لها علاقة بأي وصاية، أو تشكيك في أحاسيس الناس، أقصد نخبهم، بالدرجة الأولى، وطلائعهم. أعرف أن هاته المفارقة “الفصامية” تحتاج إلى تحليل أعمق.