بقلم: عبد الدين حمروش
(قدمت هذه “المداخلة” في ندوة، انعقدت، اليوم، صباحا، بكلية اللغه العربية، بمراكش، في إطار الاحتفال بالمدينة الحمراء، عاصمة للثقافة الإسلامية. الندوة نظمت من قبل “بيت الشعر في المغرب” بمشاركة من كلية اللغة العربية)
1- المنفى المغربي:
أول غربة مادية، صارت رمزية، إلى أبعد الحدود، في ما نحن فيه، كانت من المشرق إلى الأندلس. كانت تلك، التي أريد لها أن تعبر عن بداية تاريخ معين، لعبد الرحمن الداخل، يوم بلغ الجهة الغربية، من بلاد ما كان يسمى الخلافة الإسلامية. وقد أرخ لها الطريد الأموي يوم قال:
أيها الراكب الميمم أرضي /// أقر من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما تراه بأرض /// وفؤادي ومالكيه بأرض
قدر البين بيننا فافترقنا /// وطوى البين عن جفوني غمضي
قد قضى الله بالبعاد علينا ///فعسى باقترابنا سوف يقضي
وتحت القيد الجغرافي، حصلت معظم الهجرات العربية إلى الأندلس عبر المغرب. وحين تحولت الأندلس إلى دار إقامة، للعرب المشارقة كما للأمازيغ المغاربة، كان المغرب قد أضحى أرض عبور. حينئذ، ظل سهم الشوق مصوبا نحو الأندلس، لعصور طويلة من الزمن، إلى أن انعكس اتجاهه اضطراريا، ولو بشكل مؤقت، في المرحلة الأولى. المؤقت سيعود أبديا، بعد وقوع آخر حرب من حروب الاسترداد، ومن ثم وقوع آخر نزوح جماعي من غرناطة. النزوح لم ينقطع صبيبه، وحدانا وزرافات، بعد ذلك لعقود عديدة.
غير أن بين الغربات المادية، التي كانت تحدث لهذا السبب أو لذاك، بين هذه الفترة أو الأخرى، ظلت هناك غربة رمزية تشتد وتحتد. إنها غربة روحية، تعبيراتها كانت تتجسد في صور من الأحلام: أحلام الليل كانت أم أحلام النهار. ومما باتت تطالعنا به كتب التاريخ العام، والتاريخ الأدبي بشكل خاص، في هذا الاطار، غربة الشاعر ابن عمار في المغرب، على صعيد حلم ألم به، حين تراءى شخصه أمام نفسه لاجئا بجبال درن، هروبا من انتقام متوقع من المعتمد.
لقد عاش الشاعر الأندلسي ابن عمار حياته لصيقا بملك إشبيلية. وفي رؤيا منامية له، حلم بأن المعتمد قاتلُه لا محالة. تطلعاته إلى الاستقلال بحكم إحدى الإمارات، مع ما كان ينطوي عليه ذلك من أخطار محدقة، جعلت الشاعر الوزير يفكر في الهرب إلى المغرب، على سبيل نفي نفسه فيه إلى الأبد. وكما هو معروف، وبعكس ما كان يرنو إليه من خلاص، فقد قضى ابن عمار قتيلا بالأندلس على يد صديقه الملك، بعد أن اكتشف أمره، وبالمقابل قضى المعتمد نفسه أسيرا بالقرب من مراكش، ولكن على يدي الأمير يوسف بن تاشفين، بعد أن اقتيد أسيرا إلى أغمات.
من فصول المأساة، التي عاش تفاصيلها الملك والوزير، على حد سواء، يمكن استنتاج طبيعة المُتخيَّل السلبي للمغرب، لدى الأندلسيين، من منطلق كونه: أرض سجن، غربة، منفى وموت (حتى في الحلم). وعلى الرغم من أن أرض العدوة السفلى، ظلت موطن تنوع ثقافي وجمال طبيعيي، بما كانت تضاهي بهما ما هو موجود في الأندلس، إلا أن هذه الأرض استمرت حبيسة لتلك النظرة “السلبية” التي التصقت بها، والتي كدّ فيها أكثر من واحد من المغاربة لنفيها.
ظل المغرب أرض عبور، بالنسبة إلى عديدين، في أحسن الأحوال. الهجرة المُعاكسة الوحيدة، بالمعنى الإيجابي، كانت اضطرارية. ذلك قد حصل، بعدما لجأ الأندلسيون إلى المغرب، هربا من تبعات حروب الاسترداد. حين كفت الأندلس عن كونها أرض امتداد عروبي (وضمن ذلك أرض إسلام)، انتقلت لتحط بالمغرب، وتقيم في بواديه ومداشره ومدنه. والحديث عن عدوتي فاس (وإحداها تسمى عدوة الأندلسيين)، من شأنه أن يلخص طبيعة الحضور الأندلسي المتمايز في المغرب. هذا التمايز سيأخذ بعده الرمزي، أي في ما هو حضاري، بمختلف أشكاله وتعبيراته، أكثر من الأبعاد الأخرى، مع مرور الزمن، وانصرافه. وإن أمسى الإرث الأندلسي (والحضارى في مستوى أشمل) مشتركا بين جميع المغاربة، اليوم، على تنوع إثنياتهم وألوانهم، ومصادر هجراتهم، منذُ آخر نزوح للأندلسيين نحو الجنوب، فإن البروز الأندلسي كان يفرض نفسه، بين الفينة والأخرى. ذلك كله، كان يبلغ مداه العلني، عبر استعادة تلك الروح الأرستقراطية، التي صارت لها لبوسات قومية (مناطقية بالإحالة إلى مدن الأندلس وجهاتها أحيانا)، في صور من “التراشقات”، التي كانت تحدث بين أهل العدوة العليا وأهل العدوة السفلى، ومنذ العصر المرابطي. وقد كانت التراشقات “رسائلية” في منشئها، لتتحول إلى تراشقات “مقاماتية” في ما بعد، أي خلال العصور اللاحقة. أما باجتماع العدوتين في فاس، معا، بعد أن كفت الواحدة منهما أن توجد منفصلة، فإن البحث مبشر بشهادات تاريخية عن طبيعة الاختلاف، الذي كان يتحول إلى سجال، أسبابه ثقافية واجتماعية- طبقية.
بالنسبة إلى التراشقات القديمة، يوم كانت العدوة الأولى تابعة للعدوة السفلى، يمكن الاستشهاد بتلك التي حصلت بين ابي الوليد الشقندي وأبي يحيى بن المعلم الطنجي. في الواقع، لن نجهد أنفسنا في البحث عن أمثلة، وبين أيدينا شواهد ممن زاروا المعتمد السجين، وعبروا عن متخيلهم السلبي بخصوص المغرب، ومنهم أبو بكر بن اللبانة الذي وصل في قصيدته، راثيا حال المعتمد، إلى البيتين التاليين:
واعظت في آخر الصحراء طائفة /// لغاتهم في كتاب الله ملغاة
بمغرب العدوة الأقصى دجا أملي/// فهل له بديار الشرق مشكاة
استمرارا في النظرة السلبية ذاتها إلى المغرب، يمكن استحضار “قصة” السخرية اللاذعة، التي قوبل بها يوسف بن تاشفين، مستقبلا قصيدة ابن زيدون الشهيرة: ” أضحى الثنائي”. ومجمل القصة المبالغ فيها، التي أنزلها بعض المستشرقين، إلى جانب مشارقة آخرين، إلى مثابة شاهد على تخلف المغاربة الثقافي، بل وخشونتهم التي بلغت حد رميهم بالمسؤولية عن انحطاط الرقي الأندلسي، وفي الطليعة منه الأدب. وعن الانحطاط في الأدب، وبخاصة الشعر، وعن مسؤولية المرابطين عنه، نقرأ هذا الاستنتاج/ الحكم القوي لحكمت علي الأوسي: ” لم يكن دخول برابرة الصحراء الملثمين، وهكذا كان يعرف المرابطون، الأندلس ضربة سياسية قاضية للاستقلال الأندلسي حسب، بل كان كذلك كسوفا ثقيل الظل للشعر الأندلسي وشعرائه في هذه الفترة”. هناك قضايا عديدة، ضمن دروس الأدب الأندلسي، كان عنوانها: انحطاط الأدب خلال حكم الإمارات المغربية. وأكثر من ذلك، وفي جانب آخر، بلغت المسؤولية مستوى اتهام “البربر”، وهو اسم آخر للمغاربة، بضياع الاندلس نفسها، بالعودة إلى ما اصطلح عليه بالفتنة البربرية (القرطبية). ومع ذلك، فإن ما أوصل التشويق الدرامي إلى أوجه، لدى الأندلسيين وأحفادهم المنتشرين، في مختلف جهات المتوسط، على تعاقب الأحقب والأعصر، هو إنهاء حكم أسرة بني عباد بالطريقة التي تم بها، واقتياد زعيمها المعتمد إلى أغمات، أسيرا فمنفيا، ثم دفينا. في موطنه الجديد، قريبا من عاصمة المرابطين، مراكش الحمراء، سينظم حاكم إشبيلية المخلوع أهم قصائده الرثائية، التي عبرت عن صدمة الخلع، وغربة المنفى. وبسبب المأساة الموصوفة، حازت القصائد أقوى التعاطف مع الشاعر الملك، ومع الشخصية الأندلسية بصورة عامة، وإلى يومنا هذا، سواء من المستشرقين، أم من المشارقة، أم من المغاربة أنفسهم، جراء محنة ضياع الحكم، وانقلاب الحال.
القصائد التي نظمها المعتمد في المغرب، يمكن اختزالها في عنوان: “المغربيات”. إنها القصائد التي استمرت معبرة عن مأساة آخر ملوك بني عباد من جهة، ومكرسة صورة المغرب باعتباره منفى، من جهة أخرى. والأبعاد الرمزية، التي أضحت تكرسها هذهِ القصائد، وتؤكدها إلى اليوم، هو ما يعنينا بالدرجة الأولى. فما هي المغربيات؟
2- المغربيات:
تضم القصائد المغربية مجموعتين، من حيث العلاقة بالمصدر:
– الأولى، قصائد تعود إلى المعتمد نفسه، وهي قصائد قيلت بالمغرب، في خضم تجربة السجن والمنفى؛
– الثانية، قصائد تعود إلى شعراء آخرين، ممن زاروا المعتمد في سجنه، بأغمات، ورثوه في محنته. والملاحظ أنه، ضمن هذه المجموعة، يمكن التمييز بين فئتين أيضا: فئة زارت المعتمد، وهو حي يكابد السجن، ورثوا حال السجين فيه، وفئة ثانية زارت المعتمد دفينا في قبره، أي بعد قضائه نحبه. والفرق بين الفئتين، معا، هو فرق في التواصل بين المباشر مع الموضوع المرثي، والتواصل غير المباشر معه، وبين تواقت المسافة الزمنية (أو قربها) من الموضوع، أو بعدها بحكم حدوث الزيارة بعد الوفاة.
وبالعودة إلى المجموعة الأولى، التي نظمها المعتمد في أغمات، كما هو ملاحظ تصنيفها في كتاب “المعتمد بن عباد، في سنواته الأخيرة بالأسر”، فإن هذه المجموعة تركز على الموضوعات التالية:
– – يوميات الأسر، حيث كان الشاعر يكابد ضيق السجن، آلام القيد، شظف العيش، انفطار القلب على بؤس البنات، إلخ؛
– – المراسلات الشعرية مع الوافدين عليه من الأندلسيين، أي الشعراء الذين وجهوا إليه قصائد، إما بكائية أو تضامنية أو مديحية، وما كان يقابلهم به المعتمد من قصائد من قبله، حيث أمكن تسجيل أنه لم يتنازل فيها عن صورة الملك الكريم الجواد، الأبي والعزيز النفس؛
– – استحضار الشق الأول من حياة الملوك، عبر استعادة الماضي المجيد، حيث الإقامة الأرستقراطية كانت في القصور، ومنها كان الإشراف على حكم الإمارة “إمارة بني عباد”؛
– الاستغراق في التأمل، وما كان يؤول إليه من اعتبار، موضوعه توطين النفس على الخضوع لمقادير الزمن، وانقلاب أحواله بين الناس بين الفينة والأخرى؛
– – بكاء النفس، وضمن ذلك بكاء الأبناء، ومنهم الراضي والمامون، وإن كان يخالط البكاء قدر من عزة نفس، ما إن تفتأ أن تتحول إلى نوع من الفخر، ولو “الجريح”.
– هذه هي حياة الشاعر في المغرب، وهي حياة مرتبطة بتجربة السجن، وما عنته من منفى اضطراري. ارتباط المعتمد بهذا النوع من الحياة، حيث السجن والغربة والمنفى، كان لابد أن يرسخ صورة معينة عن المغرب، ولو بطريقة غير مباشرة. ومن تبعات أسر المعتمد ونفيه، أن جرت أكثر من محاكمة للأمير بن تاشفين، جراء قراره نقل ملك بني عباد إلى أغمات.
– إذا، المغربيات هي مجموع القصائد التي نظمها المعتمد في المغرب، أي خارج الأندلس. وتقابل هذه القصائد القسم الثاني، مما سماه رضا السويسي، شعر الملك الأسير. وقد لخص المستشرق جنثالت آنخل بالنثيا هذه التجربة، في كتابه “تاريخ الفكر الأندلسي” بكونها: ” أصدق أشعاره عاطفة، وأبلغها أثرا في النفس”. وبالموازاة مع ذلك، فهي القصائد ذاتها التي تتخذ لها، في موضوعها العام، بعد الغربة كصورة هاجسية. يقول الشاعر في ثلاثة أبيات، متطيرا من وصوله إلى جبال درن، ومما تحيل إليه من درن (الدرن هو الكدر في العربية):
هذي جبال درن، /// قلبي بها ذو درن
يا ليتني لم أرها، /// وليتها لم ترني!
كأنها تخبرني/// بأنها تقبرني
حتى وهو يخاطب الغربان، نازعا عنها جانب ما يلتصق بها من شؤم، فإن محاولته تلك لا تسير إلا في اتجاه أن الغربان، في أصل دلالتها، إنما هي رديفة للتشاؤم، وبالتالي حلول المكروه. يقول:
غربان “أغمات” لا تعدمن طيبة /// من الليالي وأفنانا من الشجر!
كما تعبان بالفأل تعجبني /// مخبرات به عن أطيب الخبر
أن النجوم التي غابت، قد اقتربت /// منا مطالعها تسري إلى القمر
وتصل الغربة أقصى مداها، حين خشى الشاعر أن تبلغ غربة الروح غربة القبر، أي غربة ما بعد الحياة، أو بالأحرى غربة الحياة الأبدية. يقول:
قبر الغريب سقاك الرائح الغادي! /// حقا، ظفرت بأشلاء ابن عباد
– المجموعة الثانية تضم قصائد الزوار، سواء من الذين زاروه حيا، أم الذين زاروا قبره، بعد وفاته. في الفئة الاولى، من هذه المجموعة، يمكن الإلماع فيها إلى قصيدة ابن اللبانة، التي كان مطلعها:
لكل شيء من الأشياء ميقات /// وللمنى من منائيهن غايات
وفي سياق النظرة السلبية إلى المغرب، كنا سجلنا بيتيه الشعريين، اللذين تجعلنا قراءتهما نستنتج المعنيين التاليين:
أ- معنى ما يحتويه الشطر الثاني من إشارة سلبية، يمكن فهمها على أنها صورة عنصرية بحق من نعتهم بطائفة في آخر الصحراء، بالتركيز على “لغاتهم في كتاب الله ملغاة”؛
– دجو الأمل في المغرب (العدوة القصوى)، دلالة على إظلام المغرب من جهة، وحاجته إلى “من” يضيئه، وهو، هنا، المشرق.
والقصيدة الثانية، التي يمكن الإلماع إليها، من الفئة الثانية من المجموعة، فهي لأبي بكر بحر بن عبد الصمد. جاء مطلعها:
ملك الملوك أسامع فأنادي /// أم قد عدتك عن السماع عواد؟
القصيدة تفيض حبا بآل عباد، واعترافا بجميلهم. ولذلك، كان من الطبيعي أن يقابل الشاعر سقوط ملكهم بخسوف الشمس. وما يعنينا من القصيدة، التي قالها ابن عبد الصمد عند قبر المعتمد، إشارته إلى غربة الفقيد:
يا موت لم تشفق لغربته ولم /// تر ما تخلفه من الأولاد
سينصرم زمن طويل، قبل أن يزور ابن الخطيب قبر المعتمد، معتبرا الزيارة من أولى المهمات. يقول:
قد زرت قبرك عن طوع بأغمات /// رأيت ذلك من أولى المهمات
وإلى اليوم، لم تنقطع الزيارات إلى ضريح المعتمد. يمكن الإشارة إلى زيارة الشاعر الأندلسي “بلاس إنفانت”، حيث كانت حرب الريف قائمة مشتعلة.
3- من المنفى إلى الإقامة:
بين المغرب وشبه الجزيرة الإيبيرية أكثر من سبب. فالجوار القائم، بفعل الجغرافيا، لم يكف عن تجذير فعله التواصلي يوما، حتى في أشد اللحظات انكماشا وانغلاقا. ولهذا، يبدو طبيعيا أن يستلزم القرب الجغرافي التواصل الثقافي، بما يجعل للبحر المتوسط أكثر من معنى مادي ورمزي. إنه فعل الماء، أو بالأحرى سحره، ذلك المتموج المنطلق، الذي لا تفتر حركته، حاملا السفن والسلع والرجال والأفكار بين الضفتين.
لم يكن التواصل سلسا في مرات عديدة، بالنظر إلى بروز بعض عناصر التوجس بين الفينة والأخرى. غير أن تلك العناصر، القائمة نتيجة الاختلاف في أمور محددة، هي العناصر ذاتها التي تجعل من التلاقي أمرا واقعيا. والسبب، في ذلك، يعود إلى التاريخ، إلى قدرته الحكيمة على التهجين، باعتباره عملية مزج بالمعنى الإثنولوجي، أو مثاقفة بالمعنى الإنتربولوجي. التمازج والتواصل والتثاقف، تبدو توصيفات لتلك الحركة الدائبة المتبادلة، التي نسميها التاريخ الجماعي المشترك اختصارا. فحتى القلاع والحصون والرباطات، مع ما تستثيره في الذاكرة من لحظات عدم ثقة، حتى وعنف أحيانا، تشهد على مظاهر الإرث الثقافي/ الحضاري المشترك إلى اليوم.
الإيبيريون يقيمون في المغرب، مثلما يقيم المغاربة في إيبيريا. الأمر لا يتصل بالأدب والموسيقى والمعمار والطبخ فقط، بقدر ما يتصل بالمزاج الذي ما انفكت تَمْهَرُهُ ثقافة البحر المتوسط. القصور، بحدائقها ونوافيرها، والقلاع، بأسوارها وتحصيناتها، والمخطوطات، بعلومها وآدابها وفنونها.. تصير شواهد حية على حياة مشتركة، تتأبى على المحو والنسيان. أو ليست الأندلس، بعد أن كفّت عنها حدود الجغرافيا واعتباراتها، تقيم في الخيال الجماعي المشترك؟
إن عناصر الدين والدم واللغة،لم تكن فاعلة، دوما، في استثارة التوجس وعدم الثقة. الجغرافيا، المرسومة بحدود السلطة القائمة، تعتبر أكثر حسما في تلك الاستثارة. أو لم يكن المعتضد العبادي، والد المعتمد، يتوجس من نزول المرابطين رحبة مراكش؟ أو لم يكن يتوقع، بذلك، حدوث انفصال بين جغرافيتين/ حكمين..بالرغم من العناصر المشتركة المذكورة؟
الخطر الداهم من إحدى الضفتين، من الشمال أوالجنوب، ظل يُجَذِّر فعله في المخيِّلة والوجدان على مر الحقب والعصور. واليوم، يمكن للبعض أن يستطيب تأكيد ذلك الحكم التاريخي القاسي، الصادر منذ نزول المرابطين رحبة مراكش، في ضوء ما يحكى عن اتساع ظاهرة الهجرة السرية، وما بات يرافقها من مظاهر سلبية أخرى.
القراءة الانتقائية لبعض أحداث التاريخ، غالبا ما تضمر بعض الأحكام القيمية الجاهزة. فالتاريخ، في حركيته، لم يشأ أن يختط لنفسه مسارا وحيدا، في هذا الاتجاه أو ذاك. ومن ثم، يجذر بأية قراءة مختارة أن تكون إيجابية، إن أُريد لدواعي سوء الفهم التاريخي أن تضمحل وتزول. وبطبيعة الحال، ليس من عنوان أكثر دلالة على المراد من الأندلس، مزاجا وتاريخا وحضارة. فقد دلت هذه الأندلس، في حقيقة وجودها، على رقي ثقافي/ حضاري، أسسه االتسامح والتعايش والتعاون.
وإلى تاريخنا الجاري، تظل الأندلس الجنة التي تهفو إليها العيون والقلوب، من الضفتين على حد سواء. ولذلك، تبدو الإقامة في الأندلس بمثابة الإقامة في جنة الفتنة والسحر الحضاريين. لقد أبت الأندلس إلا أن تضم الضفتين بجناحيها، مُحوِّلة كل ضيق بالآخر إلى سعة، وكل توجس إلى ثقة، وكل انغلاق إلى انفتاح.
والعجيب أن هذه الجنة الأندلسية اتسعت بشكل كبير، إلى درجة أن صارت لها امتدادات ثقافية- حضارية، تعدت شمال إفريقيا والشرق الأوسط إلى أمريكا اللاتينية.
هكذا، تبدو الحضارة الأندلسية علامة تميز، وبتعبير آخر علامة على رقي حضاري. الحدائق الأندلسية، بهذا الخصوص، توحي بأكثر من دلالة ورمزية. والحقيقة أن ما من تواصل يمكن أن ينشأ، إلا وينبغي أن تكون الأندلس بؤرته، خصوصا في ظل التقاطب/ الصراع الحضاري المفترض اليوم. فالأندلس، ظلت باستمرار، في المخيلة، مركز جذب وتفاعل بين الشمال والجنوب، بين الشرق والغرب، بين الإسلام والمسيحية.. بين العرب والقوط، بين العرب والامازيغ، وهكذا.
إذاً، كيف يمكن تحويل المشترك الحضاري الأندلسي إلى حوار وتفاعل إيجابيين، من شأنهما أن يُلافيا كثيرا من سوء الفهم التاريخي من جهة، و يرسخا قيم الثقة والنظر المتسامح البناء من جهة أخرى؟ ولعل مقاربة هذا السؤال، قُدِّر لها أن تتحقق في أكثر من صيغة جواب، عبر كثير من المبادرات المادية والرمزية المتلاحقة، على مر الأعصر والأحقب. وفي هذا، تندرج أهمية الدبلوماسية الثقافية، بالنظر إلى ما تساهم به في ترسيخ قيم التعاون المطلوبة، وبالتالي يحد- إن لم يستأصل- فاعلية الأحكام الجاهزة المطلقة. ولذلك، تكتسي هذه الدبلوماسية بُعدا استراتيجيا، من هذه الناحية، في سياق ما يساهم في تعضيد باقي المبادرات الدبلوماسية الأخرى، ومنها السياسية والاقتصادية والرياضية.