ظل المغاربة يرددون: “الصنعة إلى ما اغناتك تعيشك”. المقارنة، في المثل، تجعل التعليم العالي أفضل من التكوين المهني، وبالتالي المتعلم الباحث أعلى مرتبة من الحرفي المهني.
مع تزايد أعداد الخريجين، طوال العقود الثلاثة الاخيرة، صارت الجامعات والمعاهد العليا لا تقود، في الأغلب الاعم، إلا إلى “البطالة”، أو أريد لها ان تكون كذلك (هكذا يقولون على الأقل). المتخرجون الجامعيون، الذين اكتفوا بالتكوين النظري، في معظم سنوات دراساتهم الجامعية، باتوا في مواجهة أنفسهم، من خلال عبارة المونولوغ التالية: كون غير شفت ليا شي طريق أخرى (تعلم حرفة ما مثلا).
ومع ما باتت تمثله كرة القدم في الوجدان الشعبي، وبفضل ما باتت تذره من امتيازات مادية هائلة لأصحابها، انقلبت “الآية” اليوم، حتى صار هذا القول أقرب إلى الواقع: “كون غير جربت نكون لاعب كرة قدم”. الجميع انخرط في لعب المستديرة بالأحياء. ولو كانت هناك زيادة بسيطة في الاهتمام بها، لكانت هناك إمكانية لبروز مواهب كروية هنا أو هناك. صفقات التجارة، في بيع اللاعبين وشرائهم، مجزية من حيث المردود المادي، بالنسبة إلى اللاعب وإلى النادي. الآن، هناك صناعة مختصة بصناعة اللاعب، وهناك اقتصاد خاص بكرة القدم.
“الشرويطة”، الملفوفة قماشا، حتى زمن غير بعيد، أضحت معشوقة الجماهير في كل بلدان العالم. وبالإضافة إلى ما تذره من أرباح، جراء مداخيل التجارة باللاعبين، وعائدات الإشهار وبيع التذاكر، ورسوم النقل المباشر للمباريات (إلخ)، أضحت المستديرة عاملا حيويا في تمتين العرى الشعبية والوطنية والقومية. لذلك، وجدت وزارة للرياضة، التي ظلت تحتل فيها لعبة كرة القدم موقع القلب من الجسد.
في المغرب، يمكن التأريخ للعبة بما قبل مونديال قطر، وبما بعد المونديال. الوصول إلى نصف النهائي، كان بمثابة علامة فارقة على عهد بأكمله. ليلاحظ الملاحظون ان إنجازات الكرة، في عصرنا الحالي، صارت مقياسا للتأريخ. لم يعد ذلك مقصورا على الانتصار في الحروب الكبرى، أو انتشار الأوبئة المدمرة أو المجاعات المفنية، مادام قد اصبح لكرة القدم ما تقوله في باب التأريخ للأحداث الوطنية الكبرى. كأس العالم المقبلة، الممظمة بشراكة مع إسبانيا والبرتغال، ستكون حدثا كبيرا، هي الأخرى، في القادم من السنوات: رياضيا، واقتصاديا وسياسيا.
من كل ذلك، أخذت تتخلق تراتبية جديدة، وإن ببطء، ومنذ وقت غير قصير: النادي الرياضي بدل المدرسة. وحتى ان ظلت الأخيرة موجودة، فالنادي سيكون الأصل، بينما المدرسة ستصبح الملحق. منح الوقت الأوفر لمداعبة الكرة، والوقت المتبقي لتهجي الحروف.
السؤال، الذي يمكن طرحه، الآن، هو: كيف يمكن لشعب ان يعيش بكرة القدم وحدها؟ يبدو انه سؤال واقعي ظاهريا، لكن الصيغة، التي بها طرح، “مغلوطة”. الحاجة إلى كرة القدم، والرياضة بصفة عامة، كتربية بدنية، وكتكوين ذهني، كبيرة، لكن في إطار التكامل مع الحاجات الأخرى: المعرفية، والمهنية، والفنية، والأخلاقية. ولذلك، يمكن للمرء ان يلاحظ ان الدول التي استطاعت سد مختلف الحاجات المذكورة، في إطار التكامل المشار إليه، هي التي ظلت تحتل مرتبة الصدارة في كرة القدم، وفي الرياضات الأخرى جميعها. ومن هنا، والمغرب في حالة انتشاء من بعض النتائج المحققة مؤخراً، لابد له من ان يضع أمامه القاعدة التالية: النجاح نجاح واحد، وفي كل المجالات، وليس لحساب الواحد على حساب الاخر. نجاحات دول أوروبا الشرقية، في الألعاب الاولمبية، برغبة منها في إبراز تفوقها، انتهت إلى التراجع أمام دول أوروبا الغربية. التركيز على الرياضة وحدها، كسبيل إلى إبراز الذات، وكمؤشر على ادعاء التقدم، سرعان ما تفضحهما المؤشرات الأخرى، الاجتماعية والاقتصادية والفنية.