أجهدت نفسي مستقصيا بعض أسباب انحسار الميل إلى الانشغال بالأدب والإبداع فيه،فتكونت لدي طائفة من الخلاصات أجْمِلُها في ما يلي:
– إن مُنْجز أدبائنا ضئيل إذا ماعرضناه على نظرائهم في المشرق العربي أو نظيره ببلدان أمريكا اللاتينية الذين راكموا أعمالا ذات قيمة أدبية و بعد إنساني وجمالي تضار أعمال كتاب أوربا بل تتفوق عليها من حيث اجتراح طرائق جديدة في مجال تقنيات السرد وغيرها من خصائص الإبداع الروائي، فباستثناء بعض الأسماء الوازنة بعدد أصابع اليد الواحد ة، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: محمد زفزاف ومحمد شكري وأحمد المديني ومحمد بوزفور وعبد الكريم غلاب ومبارك ربيع الذين أثْرَوْا النتاج السردي المغربي خلال العقود الأربعة الأخيرة من القرن الماضي، لانكاد نعثر اليوم على أدباء بنفس إبداعي طويل يرفُدُه مشروع أدبي ينخرط هذا الكاتب أو ذاك إلى نهايته بعد أن يكون قد جرّب كل ممكناته، ومن المحقق أن أسماء أدبية جديدة تبرز بين الحين والحين وتنال جوائز أدبية رفيعة، لكنها لا تستمر في مجال الإبداع، أو أنها تستمر وقد فقدت عنفوانها وغَدَتْ تكرر عملها الأول على نحو مُمِلٍّ وبدون أي بحث عن أشكال سردية جديدة أو أنها تتناول مواضيع مثل تلك التي دَرَجَ جُل أدبائنا على طرقها.
وأكاد أجزم أن جل الأدباء الشباب اليوم يكتبون وعيونهم فقط على الجوائز الأدبية وما يمْكن أن تُغِلَّ عليهم من مالٍ ومن اعتراف “رسمي” مما يخوِّلُ لهم بيع أعمالهم أو ترجمتها مع ما يعنيه ذلك من مداخيل مالية إضافية، ولايخامرني الشك أن من يكتب لينال هذه الجائزة أو تلك لايمكن أن يبدع أدبا رفيعا وأصيلا يعبر فيه عن آمال الناس وانكساراتهم وهواجسهم، إنه ينتج أدبا تحت الطلب، وهذا لعمري هو السقوط والخزي بعينهما.
–سوق الثقافة في المغرب مفْلِسٌ منذ عقود وسيتضاعف إفلاسه مع كل “الألعاب” الإلكترونية التي تُمْطرنا بها الشركات العملاقة يوما بعد يوم، سوق الثقافة مُفْلِسٌ لأنه لم يكن لأي من وزراء الثقافة السابقين أي خطة أو تصور واضح حول القراءة والكتاب، نحن شعب لايقرأ، فبِوُسْع المغربي أن ينفق كثيرا من المال ليقتني أثاثا فاخرا ولكنه لايفكر إلا نادرا في اقتناء كتاب يجعله أمضى ذكاء أو أدنى غباء في أسوأ الأحوال، لأن فعل القراءة لم يكن يوماً خبزنا اليومي،أي عادة من جملة العادات اليومية التي نتخفف منها كل يوم ودون وعي منا أحيانا، ليس للقراءة حيّزٌ مخصوص بها في يومنا لاينازعها فيه أي فعل آخر، ثم إن المدرسة التي يُفْترض فيها أن تغرس في المتمدرسين الإقبال على القراءة والتثقيف الذاتي لا تنهض بهذه المهمة كما يقتضي الأمر ذلك، إذ إن معظم المؤسسات التعليمية العمومية والخاصة منها لاتتوفر على مكتبات وقاعات للمطالعة، أما المدرِّسون الذين يُفترض فيهم أن يرشدوا تلاميذهم إلى الكتب ومواضيعها لايقرأون إلا نادرا، بل منهم من يُعْلن على رؤوس الأشهاد و دون أن يخجل من نفسه أو يرفَّ له جفنُ وهو يقهقه مسرورا أنه لم يقرأ كتابا منذ أن غادر الجامعة وهو يحمل شهادته الجامعية، فإذا توقف المدرس يوما عن الاستزادة من المعرفة والتحصيل فإنه يحكم على نفسه بالإخفاق والموت، ثمة مدرسو لغات كُثُرٌ يرتكبون أخطاء لغوية (هذا الأمر شاهدته غير مرة حين كنت أدرس بالسلك الثانوي) لايرتكبها تلميذ نبيه، والأنكى من ذلك أنهم يتركون تلك الأخطاء على السبورة شاهدة على غبائهم وبؤسهم المعرفي دون أن يكلفوا أنفسهم عناء مسح تلك الأخطاء أو دعوة أحد تلاميذهم لذلك حتى يلج الأستاذ الموالي قاعة الدرس ليقف بنفسه إن حباه الله حظا من النباهة على تلك” الفظائع” التي تُرْتكب في حق اللغة والمتعلمين على حد سواء، وحين يصرح المدرس بوقاحة مخزية أنه لم يطالع كتابا منذ عقود، أشفق عليه وأخاطب نفسي:” رباه، على أي كوكب نعيش، هل أمسى الجهل والكسل مدعاة للفخر؟ كيف لمدرس لايقرأ أن يفتخر ويتبجح بأنه لايقرأ أن يدل تلاميذه على مايقرأون وأن يحدثهم عن مباهج المطالعة وعن أسرارها وكيف تسمو بعقل المرء وشعوره؟ يقول مونطيني Montaigne :”ثمة روابط ثلاث ليس بمقدوري أن أستغني عنها بأي حال من الأحوال وهي:” الصداقة والحب والقراءة.” وفي القول المأثور:فاقد الشيء لايعطيه، كيف لمن لم يتذوق
متعة المطالعة أن يحدثك عن مباهجها؟ وأقصد في هذا المقام مدرسي اللغات، أما من يدرسون المواد العلمية، فشأنهم لايعنيني في شيء، إنهم يركضون ركض المجنون خلف الساعات الإضافية هنا وهناك وفي أي وقت ومكان بحثا عن بعض حطام الدنيا، وإن كانت طبيعة المواد التي يدرسونها لاتعفيهم من المطالعة في مجال تخصصهم ليرْقَوا بأدائهم المهني على الوجه الأكمل، ثم إن المدرسة المغربية (وهنا هي تُمَثِّلُ الاستثناء المغربي في أبشع صوره وأشدها بؤسا وانحطاطا) هي الوحيدة من دون كل مدارس كوكبنا التي لاتُشْعِرُ من يختلف إليها من متمدرسين أن القراءة كما الماء والهواء والغذاء لاغِناءَ عنها للإنسان في كل أطوار حياته: ربما المغرب هو البلد الوحيد الذي بوُسْع المتمدرس أن يُمْسِيَ بين عشيَّةٍ وضحاها مُدَرّساً أو مهندسا أو طبيبا جرّاحا أو محاميا أو قاضيا أو موثقا دون يقرأ كتابا واحدا طيلة مساره الدراسي، بل يكتفي بأن يحفظ “ملخصاته” البئيسة وأن “يلقيها“على ورقة الامتحان دون أن يهضمها جيدا كما ينبغي الأمر أو أن ينجز آلاف التمارين المدرسية ليكتسب بعض الإواليات (الميكانيزمات) التي تسعفه أن يشحن ورقة الامتحان ليحالفه النّجْحُ يوم الامتحان حيث يُذل الكسالى والمُجِدّون من التلاميذ ويُهانون على حد سواء في اختبارات لا تقوم ذكاءهم بل ينظر إليهم مُعِدّوها باعتبارهم بَبَّغاوات تكرر مايُلْقى إليها من كلام بغباء دون استيعاب وتمحيص.
تساؤلي كان في البدء حول عجزنا عن الكتابة، وهو عجز له ما يفسره، ونعود مرة أخرى إلى المدرسة، وهي مبدأ الأمر ومُنْتَهاهُ، فعندما تنعم بالعافية، تستقيم كل الأمور أو جُلُّها، وعندما تعْتَلُّ وتتكالب عليها الأدواء ويمتد إليها الضعف والوهن، تصيب المجتمع كل العلل والأوصاب، لانكتب ؟ ببساطة لأننا لانكتب؟ كيف ذلك؟ أتفسر الماء بالماء يا هذا؟ كلا، لا نكتب لأننا بساطة لم نتعلم قط الكتابة!!! في أسلاك التعليم كلها ابتداء من التعليم الابتدائي مرورا بالإعدادي والثانوي وصولا إلى التعليم الجامعي، لم نكن نكتب يوما إلا مُكْرَهين عندما تُفْرَضُ علينا الكتابة فرضاً أو في أيام الامتحانات الإشهادية، كيف يتسنى لِمُتَمَدْرِسٍ أن ينشأ عنده الشغف بالكتابة والكًلَفُ بها إذا كانت تُنْصَبُ أمامه العقابيل من كل صنف ولون؛ فطيلة سنة دراسية تمتد تسعة أشهر و أسبوعين تقريبا، قلّما يُدعى المسكين إلى أن يعبِّر عن ذاتِ نفسه أو يعبر عن موقفه من قضية ما، فالمدرس يكتفي بإلقاء توجيهات حول الموضوع المراد تناوله، وهي توجيهات فضفاضة وهُلامية لاتُسْمِنُ ولاتغني من جوع والأوْلى أن يحتَفظ لنفسه بتلك التوجيهات والنصائح وأن يَعْمَدَ هو نفسه إلى تَحْريرِ ما يدعو تلاميذه إلى كتابته،(l’exemple vaut mieux que le précepte)،قضيت سنوات على مقاعد الدرس، وكانت تنقضي السنة ونحن لم نكتب إلا ” إنشائين” يتيمين، وخلال أشهر السنة ذاتها نستغرق الوقت كله أو معظمه في دروس الإملاء و الصرف والنحو والبلاغة وغيرها، وكنا ندرس هذه المواد لذاتها وبأدق تفاصيلها وكأننا سنصبح لاحقا من أهل الاختصاص فيها، والحال أن كل هذه المواد تٌدَرَّسُ ليتسنى للمتمدرس لاحقا اكتساب أسلوبه الخاص في الكتابة بلغة سليمة لايعْتَوِرُها الخطأ واللحن، ماذا تغني عنك كل كتب اللغة إذا أدركت يوما أنك عاجز عن التعبير عن ذاتك أو إصدار حكم على موقفٍ أو قضية من القضايا؟ يقضي المدرس ثلاثة أشهر أو أكثر وهو يحدثك عن شروط كتابة المقدمة وأشهرا اخرى للحديث عن الخاتمة و أخيهما العرض، وعندما تنتهي السنة تخرج منها كما دخلتها صفر اليدين خاوي الدماغ والوِفاضِ لاتكاد تلوي على شيء وأنت لاتعلم أي شيء عن المقدمة و لا عن أصلها و فصلها،وتتوالى السنوات وأنت لاتكتب إلا فيما نذر، تملأ دفاترك طيلة السنة بكلام لايكاد يسمن أويغني من فهم أو إبداع، وعندما تغادر قاعات الدرس،تجد نفسك عند نهاية مسارك الدراسي أنك كنت مغفلا تطارد خيط دخان( كما قال رفيقُ بلقيس يوما.)
نادرا ما نكتب، من منا مثلا يدون يومياته، فيسجل في دفتر مدرسي ما عاينه في يومه وماسمعه من كلام أو همس أو يعبر فيه عن انفعال من انفعالاته أو عن شعور غمره فملأ عليه حياته من مختلف أقطارها أو يبث الورقة البيضاء بعض هواجسه و وساوسه وهلوساته، في حين أن عامة المواطنين في البلدان المتقدمة يحرصون على هذا التقليد، وهو تقليد أو طقس عظيم الفائدة والأثر، فيه مايشبه العلاج النفسي عبر الكتابة، بل الأدهى من ذلك أن ساستنا الذين يفترض فيهم أن يحرصوا على تدوين مذكراتهم لتُفيدَ من الأجيال اللاحقة لايفعلون!!! لذا فإن تاريخنا الحديث مبثور وضبابي لأن بعضه دفن مع جل الفاعلين السياسيين الذين أمسكوا في لحظة بزمام القرار السياسي ثم ابتعدوا عن تدبير الشأن العام أو أبعدوا عنه، وتوفاهم الله و تمت مواراتهم الثرى هم وأسرار الحكم والسياسة معهم.
الرجوع القهقرى:
كل الأمم المتقدمة دخلت عصر الكتابة إلا نحن العرب مازال الشفهي فينا عظيم التأثير، نعشق الجلبة والصخب ونكْلف بالثرثرة والكلام يلقى على عواهنه، والحال أن الإبحار في دنيا الكتابة لايُلْقي بالا لكل هذه التفاهة التي تُنْشِبُ فينا براثنها كل ثانية، يمضي الجميع أبعد شوط في عالم الكتابة ونعود نحن إلى الشفهي الذي لايكاد يستقر على حال، لذا يبقى نتاجنا الأدبي ضئيلا من حيث كمُّه ومُتَدَنِّيا نسبيا من حيث قيمته الأدبية والفنية إذا تمت مقارنته بإبداع الأمم الأخرى.
كيف ينظر الآخرون إلى الكتابة وكيف يتعلمونها؟
في الولايات المتحدة، ثمة تقليد راسخ ومكين في الجامعات الأمريكية، إذ يتم برمجة مادة اسمها Creative Writing(الكتابة الإبداعية ) يحضر ورشاتها ودروسها طلبة الكُلية و مستمعون لاينتسبون إلى الجامعة، بل هم مواطنون عاديون من طبقات اجتماعية متباينة ومن مشارب شتى، يجمعهم الولع بالأدب والكتابة، هؤلاء الزوار الطارئون يزاولون مهنًا مختلفة، منهم ربة البيت والطبيب الجراح والميكانيكي والممرضة والمُزارع والصحفي و الصياد في أعالي البحار، يحضرون هذه الدروس ليتعلموا فن الكتابة، إذ توجه إدارة الكلية الدعوة إلى طائفة من كتّاب أمريكا النابهين الذين يلقون دروسا حول الكتابة الادبية ويسهرون على تنشيط ورشات في الكتابة، بل منهم من تعلم الكتابة بعد حضوره الدؤوب هذه الدروس، يحضر Jonathan Franzen او Breat Easton Ellis أوT.C Boyle أو Richard Russo أو Zadie Smith أو Donna Tart أوJoyce Carol Oates أوDon De Lillo…،يحضر هؤلاء الكتاب الذي نال جلهم أرفع الجوائز سواء في وطنهم (جائزة البوليتزر) أو خارجه، فيتحدثون عن تجربتهم في الكتابة وعن طقوس الكتابة لديهم، وعن معاناة الصفحة البيضاء، وعن مباهج الكتابة وآلامها، فتُلهِم تجربتهم بعضا ممن يحضر هذه اللقاءات الدافئة إنسانيا والخصبة معرفيا،فينشأ كتاب جُدُدٌ يجربون طرائق جديدة في التعبير ويتناولون مواضيع وأفكارا لم تخطر يوما بخُلد مٌدَرٍّسيهِمْ الذائعي الصيت. وعلى هذا النحو، تتناسل أجيال وأجيال من المبدعين الذين يميطون اللثام عن مكامن العطب والعفن في المجتمع الأمريكي وينكأون جراحه ويكشفون نقائصه و عِلَلَهُ ويُكْسِبونه مزيدا من الحيوية التي تسري في أوصاله وتجعل منه مجتمعا حيّاً يُمَثلُ الأدب والفنون عامة أهم مصادر حيويته وتفوقه.