بقلم: زكية لعروسي
يثير موضوع تدخل الجمعيات وبعض المنابر الصحافية في شؤون تربية الآباء لأطفالهم جدلًا كبيرًا حول طبيعة العلاقة بين الأصالة الاجتماعية والضغوط المتزايدة للتكيف مع أساليب دخيلة علينا، مستوحاة من المجتمعات الغربية. إذا عدنا بالذاكرة إلى سنوات مضت، إلى زمن أجدادنا وآبائنا، نجد أن التربية كانت تنبني على أسس فطرية مستمدة من القيم والعادات المحلية دون الحاجة إلى تدخل خارجي.
الجاحظ، الأديب العباسي، كان يرى أن التربية هي انعكاس مباشر لطبيعة المجتمع وقيمه. ففي كتاباته، يتجلى اعتقاده بأن الأخلاق تُكتسب بالتوجيه السليم، لا بالتقليد الأعمى للغير. كان يدعو إلى الحكمة في التعامل مع الأبناء، مستشهدًا بما رأى من أساليب العرب. هذه الأفكار نجدها اليوم تتناقض مع توجهات الجمعيات التي تسعى إلى فرض نماذج تربوية مستوردة، غير متلائمة مع واقعنا وموروثنا.
لعل المثل الشعبي القائل: “العود اللي تعوج في الصغر ما يتعدل في الكبر” يعكس مدى أهمية التوجيه المبكر للأطفال. لكن، في الوقت ذاته، لا يمكننا تجاهل حكمة أخرى تقول: “الرفق ما خلا في الوذنين شقاق”. هذه الأمثال تبرز التوازن المطلوب بين الحزم واللين في التربية، وهو ما يجب أن يكون أساس أي توعية تقوم بها الجمعيات، لا أن تُختزل جهودها في نقل الأمهات إلى أروقة المحاكم.
التربية مسألة معقدة وشائكة لا يمكن معالجتها بنهجٍ غربي أو فرض قوانين مستنسخة من مجتمعات بعيدة عن سياقنا. ما نحتاجه اليوم هو التركيز على التوعية، كما يقول المثل: “الوقاية خير من العلاج”. يجب أن تلتفت الجمعيات إلى خلق برامج تعليمية للأمهات والآباء، تتناسب مع ظروفهم وإمكانياتهم، بدلاً من محاسبتهم على أساليب تربوية متأصلة في ثقافتنا.
نحن لسنا ضد التطور، ولكن التطور الذي لا يراعي خصوصياتنا يصبح هدمًا أكثر منه إصلاحًا. فكيف نطالب أمهات يعانين من الفقر والجهل بفهم فلسفات تربوية لا تمت لواقعهن بصلة؟ ولماذا نصوّر العصا، التي كانت رمزًا للهيبة وليس للعنف، وكأنها الجاني الأكبر في انحراف المجتمعات؟
دور الجمعيات لا يجب أن يكون في انتقاد الأسر وتقويضها، بل في مد يد العون لها. أن تكون هذه الجمعيات مدارس متنقلة للتوعية، تعلّم الأمهات فنون التربية الحديثة ولكن بما يتناسب مع بيئتهن. أن تساعدهن على فهم احتياجات أطفالهن النفسية دون أن تفقدهن سيطرتهن أو دورهن كأمهات.
كما قال أحد الأدباء: “إن التربية ليست وصفة عالمية، بل هي فن يُتقنه كل مجتمع على طريقته”. لا نحتاج إلى أمهات “حبيسات” كما في الغرب، بل إلى أمهات قويات، يعشن واقعهن ويحتفظن بجذورهن.
لا لمجتمعٍ ينسخ النموذج الأوروبي في اجتثاث الأبناء من أحضان أمهاتهم، كما تشهده العديد من الأسر المغربية المهاجرة في أوروبا؛ حيث يُصبح الفقد معاناةً والموت مصيرًا للأسر المنهارة. أليس كافيًا ما تقاسيه الأمهات من قسوة الزمن وظروف الحياة؟ كيف نسمح أن تُنتزع فلذات أكبادهن بذريعة الإصلاح، والإصلاح الحقيقي يكمن في احتواء الأمهات لا محاكمتهن، وفي ترميم العلاقات لا تقويضها؟
أيها السائرون في دروب التجديد، حافظوا على جذورنا، على أصالتنا التي تتنفس قيمًا عربيةً ومغربيةً أصيلة. اجعلوا الجمعيات ملاذًا للحكمة والتوجيه، لا مطرقةً تهدم ما تبقى من روابط الأسرة. الأسرة هي قلب المجتمع، وحين تُنتزع الأم من دورها، يُنتزع من المجتمع روحه.
إن الحل لا يكمن في المحاكم أو السجون، بل في التوعية والاحتواء. عندما تتوجه الجمعيات نحو إصلاح ما يمكن إصلاحه قبل أن يتحول إلى أزمة، نكون قد وضعنا أقدامنا على طريق الإصلاح الحقيقي. لنحافظ على مقومات أسرتنا المغربية، ولنترك النفاق جانبًا، لأن كلنا نعلم أن العصا استخدمت في تربيتنا، ولكنها لم تسلبنا إنسانيتنا.